احمد سلامة .. اذ يفتح لنا بوابة البوح

في حديثه المقتضب عن كتابه الجديد يستهل الصديق احمد سلامه تعليقاته على اسئلة المحبين بالقول ” عندما يروي الاردنيون الاحداث فانهم يأتون على ذكر عشرات الاشخاص الذين انتقلوا الى الرفيق الاعلى ويشهدون الله على صحة ما يقولون فلا تعرف الحد الفاصل بين حقيقة الرواية ونبؤات الراوي فتفقد الاهتمام بالقصة والراوي” امام هذا النقد الموضوعي الذي يعبر عن الحقيقة المرة التي جعلت الكثير من كتاباتنا الاجتماعية والتاريخية تتيه بين الزعم والنكاية والتمجيد ياتي لنا الكاتب الثائر المحافظ برواية يصعب ان تتوقف عن متابعة احداثها وفصولها اذا ما وقعت عيناك على الفقرة الاولى منها.
لقد كنت من المحظوظين الذين اتيح لهم قراءة المخطوط قبل ان يجري صف احرف طباعته وامضيت ثمان ساعات متواصلة دون توقف لاعيش معه رحلة الكاتب الذي تقاطعت واياه دروبنا عبر مراحل الدراسة الجامعية اوائل السبعينيات وامتدت صداقتنا عبر ما يزيد على اربعة عقود من الزمان .
لا اظن انني قرأت كتابا او مقالا يتناول الاحداث والاشخاص والاماكن الاردنية كالكتاب الذي سيشهر مساء الاربعاء في مدينة الاردنيين الرياضية “مدينة الحسين الرياضية للشباب ” ولعل في عنوان الكتاب ومكان اشهاره والتاريخ الذي اختير لاطلاقه معان قصدها الكاتب .
في الكتاب الذي يمزج بين الرواية والصحافة والتأريخ و يوثق رحلة مؤلفه في مراحلها التعليمية والمهنية المتنوعة وعلاقتها بحياته العائلية وتجاربه الغنية في االطفولة والشباب والنضج وتوصيف للمؤسسات والقائمون عليها ومعظم الذين تقاطعت مساراتهم مع الكاتب في القرية والجامعة والصحافة والادارة العامة ورفاق المهنة واللاعبين على مسارح الحياة العامة وصناع القرار والقوى الخفية التي اثرت في اتخاذه او استجابت له .
وببراعته المعهودة استطاع الكاتب ان يوجد الصلات بين مئات المواقف التي عرض لها تارة من خلال السياق التطوري لرحلته المهنية وتارة من بوابة الاهمية والاثر الذي تركته الشخصيات على ايقاع الحياة فعرض لمقتطفات من السير والمواقف لمئات من الرجال والنساء الذين اشغلوا الفضاء العام عبر اكثر من خمسة عقود .
ما ان تقلب الصفحات الاولى للكتاب الذي يصعب ان تصنف المحتوى تحت صنف واحد من صنوف الكتابة حتى تستسلم لجماليات سردية الكاتب وفنون وصفه للاماكن والاشخاص واللحظة التاريخية للدرجة التي تجعلك تعيشها وتندمج مع شخوصها بفعل عبقرية تفعيل الادوار واضفاء المعاني على كل حركة وايماءة وتقديمها في مشاهد تجسد للزمان والمكان والاحداث وتأسر لب القاريء.
دون ان يصرح الكاتب وبرشاقة وايحاء يلفت انتباهنا الى ان عمان التي اعيد تشييدها على اطلال “فيلادلفيا “: كانت مركزا حضريا لها نهرها وقلعتها ومدرجها الذي ظل شاهدا على حيوية واشعاع المكان الحضاري قبل ان يخترقها الخط الحديدي الحجازي بداية القرن الماضي و يصلها طلائع الشراكس والشيشان في منتصف القرن التاسع عشر وقبل ان تصبح عاصمة لشرق الاردن والمملكة الاردنية الهاشمية لاحقا.
في المراكز الحضرية يعرف الناس بادوارهم لا باصولهم وروابطهم القرابية وفي المراكز الحضرية يكتسب الناس مكاناتهم من اهمية الادوار التي يؤدونها لا من المكانات والمجد الموروث لابائهم واجدادهم. في قرائتي الاولية لعنوان الكتاب حسبت ان الكاتب اراد ان يلفت انظارنا بلطف ورشاقة الى ان عمان ليست “مقسم عشائري” بل هي حاضنة استطاعت استيعاب الشامي والمغربي واحتواء الشركسي والارمني ومدت ذراعيها للفلسطيني والارناؤطي دون تمييز.
فعمان التي اقيمت على اراضي البلقاء واحتضنت كل الذين اتخذوها ملاذا نثرت بيوتها حد السيل ومرافق قصبتها الاولى بجانب محطة القطار حيث كان مطارها الاول وسجنها الاول ومستشفاها الاول و حركة تصنيعها الاول ومتنزهاتها قبل ان تزحف غربا وتتمدد في كل الاتجاهات..
في الكتاب الذي لا تقل سخونة فصوله عن دفء الاحرف التي خرجت للتو من دواليب المطبعة وقوالب التغليف مئات الروايات والاحداث والاسماء. التي تشكل سيرها مقاطع من تاريخ الاحداث السياسية الاجتماعية الثقافية الاعلامية لبلادنا خلال فترة تمتد بين منتصف الستينيات حيث كان الكاتب طفلا في قرية بدية وصولا الى نهايات عام 2015 حيث لايزال الاستاذ احمد سلامة يعمل مستشارا لسمو ولي عهد البحرين.
في كل اجزاء العمل لا وجود للشخصيات الصامتة فالابطال لهم حضور ومواقف واراء وهناك بناء للتفاعل حيث عمل الكاتب على استنطاق الشخوص الصامتة او استكمل المشهد بتحليلات فيها من البراعة وفن التوظيف للمعرفة العميقة للنفس البشرية وطبائع البشر ما يشبع فضول القاري ويبعث على الدهشة والاعجاب.
القراءة المعمقة والسرد الانساني الممتع لطبيعة الحياة في “بدية ” ابتدأ من وصف زهرة الدحنونة الصفراء الى احتفاء الاهالي باطلاق سراح المعتقلين من الانقلابيين فصل يؤصل لفهم تكوين العقل وبناء الشخصية الريفية في القرية الفلسطينية التي لا تختلف كثيرا عن مثيلاتها شرقي النهر وهوفصل غني في توصيف وتدين التاريخ الاجتماعي لحياة القرية وقيمها وشخوصها والانشغال العام في السياسة وعدوى الانقلابات وتسامح الحكام واثر الشخصيات السياسية في بناء الروح المعنوية لليافعين ..فالتجربة بدت كطبقة من طبقات الشخصية للكاتب التي سرعان ما يساعدك الادراك بوجودها على امتلاك احد اهم المفاتيح لشخصية الكاتب…من هنا فأن احد اهم الاضافات النوعية لهذا العمل الذي يشبه في بعض خصائصه اعمال الرحالة والمستشرقين الانثروبولوجين الذين يحافظون على التزامهم الصارم بقواعد الملاحظة المشاركة دون السماح لانفسهم بالاندماج الكامل في المشاهد للحد الذي يفقدهم متعة الملاحظة والرصد والتحليل.
في الفصل الذي يرصد فيه الكاتب انتقاله من البلدة التي تتوسط يافا ونابلس وسلفيت الى المدينة التي تتوسط الزرقاء والسلط ومادبا يتحدث احمد عن مظاهر النفوذ وسمة الرجال النافذين في توصيفه لكيف اتخذ قرار ادخاله للجامعة وكأنه يفصح عن القيم التي علقت بذاكرة شاب يحط للمرة الاولى في المدينة ..ويصف ببراعة المؤرخ وفن المصور الذي يعرف جماليات اللحظة التي يحين عندها اسرالمشهد الاكثر جمالا فيلتقط من الجامعة مكتبتها ورخامها وعميدها ويعرض لنجوم المسرح وشابات الطبقات الثرية اللواتي اخترن الدفاع عن حقوق الطلبة في تعليم ميسر من منطلق المبادي لا بدوافع الاستحقاقات الجهوية والقبلية والعرقية مستعرضا لمقاطع من حوار يضي جوانب من مرحلة مهمة من تاريخ البلاد ومؤسساتها.
الحديث عن صحافة نهاية السبعينيات والرجال الذين ارسوا قواعد العمل المهني والروح الرفاقية وتداخلات السياسة والامن والمهنة والتوصيف الدقيق لرجالات المرحلة وروادها وتفصيلاتها ومعاناتها قضايا تبعث على التأمل وتقدم ارضية للمقارنة والتحليل.
في رواية احمد سلامة يتداخل العام مع الخاص والسياسي مع الاجتماعي والبوح مع اللابوح لكن الخط السردي للوقائع والاشخاص والاماكن وتوظيفها يقدم قراءة مختلفة وغنية لتاريخ الاردن ويثير الكثير.وبين ثنايا الكتاب مشاعر انسانية عميقة ونقد وفلسفة وتقييم وثناء وشكر وعتب وحب وندم واعجاب.
القراء الذين سيتلقون هدية رجال الصحافة والسياسة اللامعين على هيئة السير التي يكتبها الخبراء عندما ينهون مهماتهم . وانا على يقين بان في الكتاب شيء لكل قاريء ففيه سياسة واعلام ادب وتاريخ وفيه قيم واخبار وغني بالبوح والجمال فتحية لصديقنا ابا رفعت واطيب الاماني للكاتب والقراء وشكرنا البالغ للرجل الذي اهدانا خبرته بصدق وحب وامانة.

@جو 24