أحمد سلامة يكتب ل عمون : يَمّا .. مش وقته !!

عمون – تخير أحمد سلامة دفء البحرين ليكون معتزله الاختياري، وذلك بناء على تقدير شخصي، بأن زمن الكتابة مضى، وأن القراءة اليوم لم تعد تتقصد الفهم أو تطارد الحقيقة، وإنما أصبحت مجالا خصبا لتحريف الكلم عن موضعه، والبحث في النوايا والضمائر، فتوزع الكتاب بين طوائف شتى، وهم كانوا كذلك دائما، ولكنهم اليوم يتحولون مهما اختلفت طوائفهم إلى فئة مستهدفة، فيسومهم بعض القراء المتسلطين والكتبة المتحذلقين الويل والثبور بما يحملونه دائما من تشكيك وتخوين، وعلى الرغم من أن الحرية أصبحت متاعا مشاعا، إلا أن أدب الحوار وثقافة الاختلاف لم تتمكن من التوطن في مدنيتنا المعاصرة.

في وسط هذه الأجواء، وما ترافق معها من عوامل التعرية والتجريف في مهرجانات الجحود والاسترضاء، اتخذ سلامة قراره بالتوقف عن الكتابة، وبقي وفيا لذلك ما استطاع، ولكن الأحداث الأخيرة في عمان دفعته لأن ينكث بعهده مع نفسه، مفضلا ذلك على ممارسته الخيانة بالصمت لما جرى في الأردن في الأيام الأخيرة، ولأنه أدرك أن التأنيب الذاتي والعنت النفسي مهما كان لن يبلغ قسوة نظرات الأصدقاء والرفاق الذين سيعاتبونه يوما لأنه كتم شهادته ووأد صرخته، فإنه توجه إلى قلمه وأوراقه، لأن سلامة إلى اليوم لم يدخل في نادي كتاب اللاب توب ومعلقي الآي فون، وكانت هذه الكلمات على هامش ما حدث في عمان.

المحرر ..

وفيمايلي رسالة سلامة الى الناشر تليها مقالته :

ابو اسامة :-

اقتبس لك من حمزاتوف ‘ وطني حيث قبر ابي ‘ واضيف وطني حيث قبر اسامة يرحمه الله، اقتسمناه معا ولذا فان روح اسامة اليوم غلبت خطاياي تجاهك، واثمك نحوي لان الاردن هو مأوى اسامة ولا اريد ان ابرحه .

يوم الجمعة خشيت عليك وام اسامة ان تصيرا وانا معكم لاجئين من جنون عمان فتُحرم من الوطن، ومن زيارة المثوى النضر فكتبت لك هدية على امل ان يظل الاردن يأوينا و ( اسلم ).

احمد سلامة..

…. ………………………. ……

ليتني كنت طليقاً مع أثيري، بُنَّي، ناصر (ليس جودة طبعاً و إنما ناصر قمش). في واحدة من أزقتها، اعتدنا على عبوره كل أسبوع- هو زقاق الألفة.

لو كنت قد تمردت على قرار الإقصاء عنها قبل نيف و سنين أربعة، و تشبثت بالإمساك بطرف إحدى حاوياتها التي صارت كلها اليوم مقلوبة ، ربما أن ذلك كان أسلم أو أكثر براً بها.

بالرغم من أنني انتقلت من وطنٍ إلى دفء وطن، لا فرق بينهما إلا الأناشيد..

أي عمان.. ماذا نكتب لكِ اليوم؟

كنتُ أبحث في العيون الجميلة كي أبصركِ بها، و أكتب لكِ لا عنك، أيتها المدللة ، المجنونة و المكلومة أيضاً.

فجأة..

يا أم الجبال السبع- و أنتِ و روما في هيئة واحدة..

روما قامت على جبال سبع من دون كل حضارات الغرب و دياناته ، ما قبل مارتن لوثر و ما بعده.. ما قبل الربيع و ما بعده، ظلت على حبها للمسيح. لهذا اتخذت درة تاجها الفاتيكان.

و أنتِ يا أماه، كنت بجبالكِ سبعة رغم غوايتك في التمدد، تمددتِ حتى أدركتِ السماء السابعة لكنكِ ظللت فينا ذات الجبال السبع.

كان يا يَمّا يا عمان، قلبك فاتيكانكِ، قلبٌ واحدٌ ليس لكِ غيره.

فؤادكِ الذي صنع هواه ياسميناً أنبتتها الغوطة فأنتسبت لمعان، فصارت عمّانية، و حبة ‘قطايف أبو صطيف’ على الدرج الدهري الدمشقي الذي صار في كبريائه و قدمه سلطياً بنسائم كل البلقاء.

يَمّا.. ما أغلى الأمومة على بوابات الستين لأنها تقي من اللجوء و الوهن و اليتم و المجهول.

كان يا عمّان الجميع يقلدنوك برغم الضعف ، و كل البؤسِ و شظف العيش قملاً ، و جراداً ، و احتلالات. لكنكِ ظللت مستنكرة لقاهرة المعز دموية قراراتها بتلك الغمزة الأخاذة من خديكِ- النابلسي و الكركي.

تعالي نتذكر نحن و الإخوان المسلمون معاً..

ذات وجعٍ ستيناتي في الصراع الدامي بين الأزهر الشريف و عبدالناصر المتطلع إلى امتلاك القاهر و الظافر و الناصر ، صواريخ لصون كرامة العرب، نصبت القاهرة مقصلتها و سحبت المصحف الشريف من بين يدي (سيد) مثل البزّازة من فم طفلٍ يتضور. و أقطب الدم و الزنازن من كل جهات على الإخوان المسلمين ، من الأحواز حتى طنجة.

وحده فلذة القرآن العربي، و وارث حروفه من دوّى صوته من رغدان الحب لأقضى قضاته عبدالله غوشة، أن أرْسل كتاب الله ترتيلاً و حداداً على روح السيد قطب من مآذن الأقصى حتى الطفيلة و ليؤدِ الأردنيون صلاة الغائب لحظة أن تدحرج الرأس بعيداً عن القلب و ليعلن الحداد و الاضراب.

إضرابك دوماً كان للقضايا الكبرى ، تمسكين النار بيديكِ و تدركين النار.

هو (حسينكِ) يَمّا !! الله.. كم صارت ذاكرتكِ ضعيفة ، تردين على كل هذا الجميل بعد قرابة نصف قرن فتزحفين على رغدان!؟ في ذكرى عيد ميلاده الذي هو عيد الحب الذي جمع كل العرب في سفوح تلالها السبعة، سبحان الذي جمع الأميرلاي سعيد خير الحموي إلى صيت البر و البحر (مثقال) فأنجب فيصلاً و جيله عربياً جامعاً لكل عرب الشرق هماً و همة ، أولّم تنجب ذاكرتكِ دمعة في ذكراه ، بدل التفكير في الزحف على مقره.

سيد قطب، وحده من تجرأ على عبدالناصر رحمه الله (في الحاكمية، و الجيل القرآني) ، ووحدنا من تجرأنا على عبدالناصر فدوى لعيون إخواننا ، و كان ثمن تلاوة القرآن على روح سيد باهظاً على رغدان دفعه الهاشميون دماً في دمٍ طاهر. لكن الحسين أمر بذلك، فأطعناه و أحال مجرى النهر المقدس ليصير بضفتيه عُمّاد سيد قطب.

بعد أقل من نصف قرن على ذاك يا وفية، تردين على الجميل الذي أنْبَتَ كل زعترنا ، و خوَّذ جنودنا ، و ‘مدارق’ خالاتنا، و كحل صبايانا ، و مقاعد صفوف درسنا المهلهلة التي أنجبت كل أسطورة التعليم لنا- تردين جميله جميلاً بزحفٍ على رغدان.. و بقيادةِ من؟ أحباب الله، ورثة سيد قطب؟

الله! قاسيةٌ أنتِ يا أماه!

سلامٌ على روح ممدوح الصرايرة ، و ألفُ سلامٍ على روح سليمان العواد العربيات..

سلامُ مودةٍ على فروة الحاج حسين الحياصات حين تقاسمها غطاءً من ثلوج القدس و هو يدافع عنها مع فارس الصرايرة و زكي سعيد، مدافعين عنها دماً إلى دم مع جند آل هاشم. تلك الفئة من أتباع الإيمان الصارم في الدفاع عن القدس مع جيش عبدالله المصطفوي.

نسيتُ أن أسألكِ، ما العلاقة بين الثائر الحر زكي سعيد و الشيخ الفاضل همام سعيد (..)؟ أقصد بالسؤال: هل أخبرتِ شبابكِ الأتقياء الجدد من ‘جند محمد’ الصلة بين الذي كان و الذي يصير الآن؟ لنصنع صلةً حنونة، بريئة بين ذكرى الشيخ زكي سعيد و قرارات و قيادة الشيخ الفاضل همام سعيد..

كلاهما كانا قادة للإخوان، الأول الشيخ زكي من عباسية يافا قاد الجهاد في الحركة الاسلامية دفاعاً عن القدس مع إخوته في السلط و في الطفيلة و في إربد ، منكِ يا عمّان، و من كرك العز و الفرسان. لكنه انطلق في دعوته و رفاقه من على بوابة القصر الصغير في رغدان، كان حضنهم الدافىء، عبدالله المؤسس، و بوحي من عناده الإيماني الهاشمي في التشبث بالقدس.

هل كان الزحف إلى رغدان في تاريخكِ يا عمّان يوماً بغير الامتنان؟

الله، الله..

أطلق المؤسس على المناطق المعانقة لرغدان من البعيد القريب روابي الحب، و حي الطفايلة صار تاجُ التاجِ لتلك الروابي.

هل من الممكن أن تكون الطفيلة بحيها و بحبها غير ما كانته؟

الطفيلة!

وافاها ذات سرٍ هاشمي، طَفيلي، تليد، الحسين بن علي بن أبي طالب لزيارة أخيه غير الشقيق محمد ابن الحنفية. و الحسين كان في طريقه إلى كربلاء و محمد كان يعتصم بوادي العيص في الطفيلة. جاءها و هو ذاهبٌ إلى العراق ليذبحه (أهل الجناس و أهل الطباق) فيما بعد. قال محمد لأخيه الحسين: (يا أخي كف عن ذهابك إلى مذبحك ، فقد استقدموا أباك من قبلك، بايعوه و من ثم ذبحوه، فلا تأمن لوعودهم و ابق معي هنا يؤنس أهل الطفيلة وحشتك و يهبون لحماية عرضك و يقفون في صفك) و أكمل بحسرة العارف للفوارق بيننا و بين غيرنا: (يا ابن الزهراء، إذ أنت لا بد ذاهبٌ لتحقيق مرادك، فأترك العترة معي، فهؤلاء أهل طفيلتنا، إن بايعوك ما نكثوا و إن عاهدوك ما خذلوا.) و قال رضي الله عنه مختتماً: ( إذا قيل خيل الله يوماً ألا اركبي، وددت بكفِ الأردني انسيابها.)

و هكذا كان.. أول عشق بين الله و خيله، بين آل هاشم و أشعارهم، أردنياً جاء طفيلياً.

يَمّا..

أنتَ لستِ بغداد، مدحكِ ذم ، و أعراسكِ غم ، و غضبكِ دم.

عمان يَمّا..

و لستِ القاهرة، يجاور أمواتها أحيائها في المقابر و بيوتها العشوائية – صانعة الغضب و الثورة- مستودعات حزن و تجاهل.

أنتِ عمّان يَمّا، مشايخكِ كلهم لم تمسهم وردة بسوء و كان رغدان العون و الحِمى، لهم و لكِ.

ذات يومٍ فاء الشيخ عبدالرحيم العكور إلى رغدان و بصحبته الدكتور عويضة و معه جمع طيب من قادة الحركة الاسلامية، و كان سمو الأمير الحسن نائباً للملك و كنت بمحض الجندية هناك أحضر الحوار. و بدأ الشيخ أبو عاصم بالقول: (الدكتور أبو مرزوق يحتاج يا سيدي من جلالة الملك التدخل لدى كلينتون لفك أسره، و هذا رجاء و طلب من أحبائكم في الحركة الاسلامية.) و رد الحسن في حينها: ( الرسالة وصلت.) و كان الحسين رحمه الله أنذاك في واشنطن، و نقلت رغبة الحركة لساكن رغدان ملكاً و جثماناً لسيدنا الحسين يرحمه الله في ذات اليوم. و بقية القصة عند من له ذاكرة.

لم تتعثر شاة للحركة الاسلامية على ضفاف نهر الأردن إلا و أقالها رغدان من عثراتها. أسالوا الشيخ الغنوشي ، البانيوتي و القرضاوي كم عانوا و كم ضحوا و أسألوا أهل الذكر على الضفاف كم ابتعثوا و كم رُحموا ، و ما هانوا و لا ضعفوا.

من أين كل هذا التغيير للذاكرة؟ أخشى عليك تقليد النجف و محاكاته..

يَمّا ، أنت لست النجف.

عقب الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 ، وصل سماحة السيد عبدالمجيد الخوئي إلى الصحن الحيدري في النجف ليؤلف القلوب، لكن سماحة سيد آخر سبقه من قم لم يعجبه ذلك الإياب، فأوعز لأتباعه بالزحف على الصحن الحيدري المقدس لدى الشيعة للنيل من الخوئي و قتله. قطّعوا أصابعه و سحلوه و نحروه و كان ممن أجّر و أثخن في ضربه عبدالأمير الحدّاد، حيث استخدم مفكاً و استمر يدغدغ الجثمان الطاهر و يقطع من لحمه و واصل شتمه و سبابه قائلاً: (يا بعثي، يا حقير.) كان الحدّاد من أتباع مدرسة النجف و مقلده هو سماحة السيد عبدالمجيد الخوئي. صحح له أحد الحاضرين في المشهد أن المقتول ليس بعثياً ، بل هو سماحة السيد عبدالمجيد الخوئي و تم سحله بناء على أوامر السيد فلان. عبدالأمير الحدّاد هذا انهال على نفسه بالمفك و ظل يضرب رأسه حتى فاضت روحه و هو يصرخ: (فديتك يا سيدنا الشهيد.)

يَمّا..

إلى أين أنتِ ذاهبة؟ اللجوء من حولك امتلأت به الجهات الخمس، من البر إلى البحر و حتى السماء.

أكتب لكِ يا عمّان اليوم، لأهمس لكِ بسرٍ احفظيه عن ظهر حب : ثمة خيامٌ تنصب لكِ في الخيال، فحاذري.

لأننا كبرنا معاً و لأننا معاً، و ذاكرتنا واحدة- أخاطبكِ بالقلب. لهذا كنت بدأت الكتابة عنكِ كتابةً لا أجمل و لا أحلى ، لكنني اليوم توقفت عن ذلك خشية مني أنني سأكتب شيئاً عن مكانٍ تغير و خبا. صار البكاء كتابتنا عنكِ و أنا الغريب البعيد المحروم من رحمة اشتمام ريحانكِ اليومي.

يَمّا..

من ذا الذي يقطع اصبعه ليتخلص من الخاتم؟

حين يضيق الخاتم على الاصبع ثمة ألف طريقة لاخراجه، أولها بحلحلته بالماء او الصابون . فلا يستحق الخاتم الذي يضيق على اصبعكِ أكثر من أن تعافينه.

لله در الذاكرة..لقد خضنا كل معارككِ الكبرى في الأربعين سنة الماضية. كنا ندفن شهداء الأردنِ من العضايلة حتى ابن المفتي الذي نال منهم الارهابي المرتزق في ثمانينات القرن الماضي ببندقيته التي كانت للإيجار دوماً ، لأن رغدان قرر أن يقول لعرب الشمالِ لا لذبح العراق. و لم نخف من كثرة الشهداء قط.

و كنتُ واحداً ممن غنوا لعبدالرؤوف الروابدة حين صحح مساركِ و شطّف قلبكِ في الثمانينات و أحالكِ إلى مثل كنيسة نظيفة تحتفي بأحبابها في لحظة الميلاد و لاحق كل أعدائكِ من الجراذين حتى المأفونين و رشرش شح خضرتكِ بأصابع يديه ، حتى صرتِ عاصمة العرب و أضحيت المثال و المثل. و جاء من يزحف اليوم على منزل عبدالرؤوف ليوصم مع الفاسدين و من ثَمّ الزخف على رغدان .. الله .. كيف تصير قاع الأشياء المقلوبة قمّةً.

ساندنا فتى الأردن النبيل، نظيف الوجه و اليد و اللسان، أحمد عبيدات حين غفّ في لحظة وجدٍ أَمنية كل لصوص ضريبة الدخل. كان ذلك قبل الفساد و قبل معمعانه. كان الأردن دوماً فيه الخير الكثير و الشر القليل.

و قبل وسائل الاعلام الاجتماعي و بهاء الجزيرة التي تتصدر لعبة الدنيا زوراً و بهتاناً ، أو حقاً و حقيقة.. لم ندرِ بعد.. مشى الأردن صوب ذلك ، أعني حرية الاعلام.. مشى الأردن لتحقيق ذلك قبل مائة عام من هذا الزمن بإرادة سيادة المرأة الشريفة بزواجها ، الشريفة بخلقها، الشريفة بأستاذيتها، ليلى شرف، حين أمْلت على الأردنيين جميعاً و على الحكومة التي استقالت منها رغبتها و قرارها: ( نريد إعلاماً حراً سيداً و أردنياً نزيهاً.)

رحنا إلى جنوبكِ في 1989 في ذات المحنة، أيام هبة نيسان، فتية كنا أمنوا بربهم و بكِ و بمليكهم. كنا كارولين فرج و مجيد عصفور و يوسف العلان و مُكاتبكِ اليوم أنا- شممنا الغضب و الحَرَد و لكن الحب كان يجلل الفناء كله. يومها تعلمنا من مشايخ الحويطات حكاية (بير الشريف) صلة الود و صلة الرحم بين معان كلها ، الشامية و الحجازية و ما بينهما و بين أسياد رغدان. تعلمنا من علي قريع الفناطسة يرحمه الله و من سمير أبو هلالة يرحمه الله ، جملة عشق و حكمة جنوبية- جنونية أيضاً: بيننا و بين الملكِ نقطة ماء في بير الشريف، إذ أوى فيصل يرحمه الله في زحفه المقدس ببنادق الحويطات و كل الجنوب لتحرير دمشق. أسقيناه من بيرنا هذا و أسميناه على صفته، بير الشريف. من يومها و بيننا و بين أهل هاشم صار كل شيء حي و طيب.)

حين رويت القصة تلك للحسينِ – و الشهود قرابة الأربعين و أكثرهم ما زالوا أحياء في رغدان, تدحرجت على وجه ذاك الصبح ؛ وجه سيدنا أعني، تلك اللؤلؤة التي نسميها عند الآخرين دمعاً، قال: ( أنا ذاهب إلى الربع.)

نحن دوماً من تحت بساطيركِ يا أماه و جدائلك المنثورة لم نتجاسر للتطلع إلى المقر السامي إلا بعيونكِ ، و عيونكِ كانت صادقة دوماً أبدا ما صبرتِ على القذى للحظة حتى يختل إمعانكِ أو تحديقكِ في المقر السامي.

حدقي يا ذات السبعة..

أولهم بدوكِ الأشاوس ، و الثاني مخيمات العز حيث نثرت جود بداوتكِ على صحونهم الطائرة فصاروا بعون الله إخوانا.

حين مات محمد المنور الحديد رحمه الله، أظنكِ تعرفين من هو أبو عفاش. لحظتها و بمحض القدر و بمحض الأمر الملكي، كنت في معية أستاذي و معلمي الحبيب إبراهيم سكجها في مقر الزعيم الذي باشر الأتباع بنبش قبره ، يا حرام، زعيم فلسطين التاريخي أبو عمار رحمه الله بعد أن طرده حافظ الأسد ذات عيدٍ من دمشق لمهانة أراد الحاقها بالشعب الفلسطيني كله ، كما قال أبو عمار. و قرر الحسين أن يرد اعتبار أبو عمار. لحظتها مدّ أبو يوسف الوحيدي قلبه لأبو عمار مناجياً إياه بخبر وفاة الحديد. كنتُ أرى أبو عمار أول مرة في حياتي و بالتفصيل. انفعل بحنق و طلب من ظله فتحي، على هيئة أمر: أن أعلنوا الحداد الرسمي في مقر اقامتي ثلاثة أيام.) و قال أبو عمار رحمه الله: ( هذا الحديد، هذا. هذا أبو عفاش. للحديد أيادٍ بيضاء على فلسطين كلها.)

و تذكري يَمّا اختلاط أنسابكِ و تداخل الذرية، من صنعها و من صاغها. تذكري نبل نضال ابن برجس و تعلمي كيف يكظم الغيظ حين يكون الضيم ماحقاً و من أقرب الناس. نضال ظل لكل أبنائكِ، أبناء المخيم، سنداً و عوناً قبل أبناء عمومته و أهله.

أختم يا أماه..

ذات يومٍ أعقب قرار خروجي من عمّان بأربعة أشهر قبل أربعة سنواتٍ و يزيد- غادرت مكتبي بديوان سمو ولي العهد بمملكة البحرين حفظهما الله لمليكهما؛ حيث أتشرف بالعمل.. كانت نهايات عامٍ يا عمّان و ذهبت لأحد الأسواق لشراء احتياجات عيد رأس السنة. و لخطأ ارتكبه السائق الذي أنا معه، انقضت فجأة على مركبتنا شاحنة عسكرية على الدوار الأشهى و الأشهر في البحرين، هو دوار الساعة بالرفاع، و لم أدرِ بعد حتى اللحظة كيف نجونا و لم نسحق. أقول نجونا، كنا ثلاثة- سائق هندي اسمه أكبر و عاملة أثيوبية اسمها زويا و أنا الذي تغربت و أنا منذ ألف عامٍ أردني الهوى و العشق.

فلتحزري يا عمّان ما الذي ببالي خطر في تلك اللحظة القاسية؟

حزنت على حسين هزاع المجالي، إذ كان لم يزل بعد سفيرنا في مملكة البحرين. قلت سيأتي ابن هزاع لو نفذ القدر ليجمع عيوناً زرق و ساقاً هندية و ذراع تلك الأثيوبية المسكينة ليَلُّم منها مشروع جثة يعيدها إلى عمّان كي تدفن على أنها أنا. للحظة تلفت على غبار الواقعة من دون غبار و رددت: (لماذا نقترف الحرام بحق بعضنا من غير أدب أحياناً؟)

لم أكن حزنت على موتي و خلطة جثتي و من أخرجني ، بل أحزنني أنني سأزعج ابن شهيدٍ في مهمةٍ لا تليق به.

يا يُمّا..

ابن الشهيد له الخمس في كل شيء مثل الأنبياء و الملالي و الأولياء. خمسه ثابت في حبات الدمع و حبات العرق و حبات مسبحة الدعاء عند الفجر و واجبه علينا تلاوة الفاتحة على روح أبيه في كل فجر. من يتجاسر على شتم روح شهيد و سر شهيد، و الابن سر أبيه؟ هذا ابن الشهيد العادي، فكيف إذا كان ابن شهيد افتداؤه كان لوطنٍ و ملك.

يَمّا، أحبكِ.. لأنكِ ما سمحتِ لأي كان من ساكنيكِ أو المحتالين في حواريّكِ، أو الماكرين الناكرين لفتنة جديلتكِ المدلاةِ مصباحاً في عتمة كل العرب- ما سمحتِ يوماً شتم شهيدٍ من يافا و في حيفا و بئر السبع و حتى الجزائر أو الصومال.

اليوم يصير شتم ابن الشهيد على بوابة درجات المسجد الحسيني، و أي شهيد؟ هزاع، يَمّا. و نسيتِ بعد شتمكِ حبكِ و حب ملاقاتكِ لــ14/11 ، موعدكِ السنوي و صاحبه و مواعدتكِ إياه دفقاً و دفئاً، و في ذات اليوم تزحفين على رغدان؟ رحماك يا الله..

و رحم الله (حبيب) أوصانا بالتحية و بالتهليل الأبوي بــ (عين أبونا).. و عين أبونا صار سقفاً لكِ تتجاوزينه. ما خبرناكِ يا عمّان ‘فرناً’ لكِ سقفاً و سدة. حنّي على غربتنا، صلِ على النبي يَمّا. توضئي قبل الصبح ، و تذكري من تأمنين له و ما تؤمنين به و ردديه، كرريه يقيناً حتى تدركين الهدأة من جديد.

(اللهم صلِ على سيدنا محمد و على آل سيدنا محمد)..

يَمّا.. أي حبيبة.. سقفكِ السماء كان، لأننا نتشرف كلنا، فاسدين و مفسدين، مغتربين و مقيمين، صعاليك مهاجرين و مجانين، زُراعاً و كتاباً و فلاحين، وعاظ مساجد، حفاري قبور، لصوص نساء، مربي كلاب، جرسونات مطاعم، أساتذة علم، مُضربين و مضروبين، سجناء و سجانين، نتشرف كلنا بأن عبدالله السابع، رقمه العبدلي في السلالة من ذرية قتادة لــستمائة و تسعة و خمسين سنة خلت، ظلوا يحكمون و لا يتحكمون، و السلالة باقية لأن السابع رقمٌ قبل الثاني؛ فالسلالة قبل المُلكِ يا عمّان و جد هذا العبدالله، جده هو دعاؤنا مرات خمس في صلواتنا: (و على آل سيدنا محمد)

الدين النصيحة ، يَمّا.. بغداد زحفت ذات يوم على الرحاب و قتلت من قتلت و سحلت من سحلت من آل البيت. و بغداد بلد النفط و بلد ما بين النهرين، من زحفها المشؤوم ذلك- هل سكنت بغداد يا عمّان بعد أن اقترفت إثمها بحق آل البيت؟ و استبدلت النهرين فعاشت بين نارين دوماً؟

إلا آل البيتِ يا عمّان. عدينا من جديد أن تهتفي لنهتف معكِ و نردد من خلف حبيب الزيودي، مكررين : (هلا يا عين أبونا.)

و ستبقى لوّح بإيدك بطبعتها السامية ، و كل من تلفظ بغير الطبعة الأولى ، دخيلٌ في انشائه و نشأته.

عمّانُ، تذكري من أنتِ. أي خلطة عروبيةٍ فواحةٍ يطل رغدان مباركاً إياها كل صبح.

منسفكِ أشهره جبري، شامي مثابر أتقن أردنيته فصارت وطناً و ليست صنعة.

و زنار البدو فيكِ، زنار حضارة و حب و دفق عطاء من حمّاد أبو جاموس يرحمه الله، حتى برجس الذي أحال بنبيل حبه الأردني الحديد إلى حرير و مفلح، العم المجيد أبو صالح؛ ، شيخكِ و عمنا الذي مدّ اللوز ما بين اسمه و صنعته في احالة عمّان إلى غابة عشقٍ و علم الناس كلهم؛ ذلك اللوزي المجيد، كيف يلغي المسافة بين الجود و بين الدم.

و رايتك هي راية المهاجرين المرفوعة حباً و ولاءً و الرائحين شرقاً، انتماءً و صفاءً ، من نقاء القلب للطاهر أبو نشأت الذي أحال الصابون النابلسي إلى بياض قلبٍ و نظافة يد، و إلى من رفع هامة المخيم حتى عانقت القباب و السحاب. من إبراهيم شحدة يرحمه الله حتى خليل عطية نصره الله الذي عبّد درب الحب بين رغدان و المخيم فصار القصر و الكوخ في الهمة و الإرادة واحداً يا عمّان.

و من سميح بينو، موسيقى الشيشان العذبة في بيادرنا، و دبكة فرسان الشركس، ذاك سميحنا الذي قبض علي يد قاتل فهد القواسمي بكلتا يديه و في يد القاتل قنبلة فأفشلتها إرادة سميح. هو اليوم نفسه الذي يمسك بقنابل الثأر للوطن من جيوب الفاسدين.

و من شيبة عبدالسلام المجالي الحيية، حتى الحرج الذي لاح في وجه ممدوح العبادي في البي بي سي قبل أيام حطم قلبي و هدني لأنني لم أر ممدوح العبادي، و أنا الذي أعرفه منذ أربعين ألف سنة، فلسطينياً مثل جورج حبش كان و عراقياً مثل مظفر النواب ظل و مصرياً مثل ثروة عكاشة؛ هَدَدتِه يا عمّان و هو يدافع عمّا أنت فيه.

و من الجامعة الأردنية إلى مستشفى الشهيد – مستشفى البشير، و من حي الطفايلة إلى منير الدرة ناظر خاصة ملكين هاشميين و هو من شيعتهما، و من غربة فوزي غرايبة بشيبته الوقورة و بعلمه الوحدوي حتى يوسف القسوس الذي طهّر قلوبنا كلها من الدرن و الفرقة و الطائفية و النفاق.

و أخيراً، بإسم كل من نطق لكِ بكل حروف الحب الهابط عليكِ من الجليل الذي عمّد دمه بدم وصفي و أوقف شعره و حروفه على رغدان و ساكنيه، ‘الحيدرة’ الصالحة ابن محمود من أول حرف نطقه حتى أشهد بإسمنا شجر الزيتون؛ نقسم بإسمك يا عمّان إننا مع عبدالله ابن الحسين ماضون و سنظل إلى رغدان سائرين، خاشعين، مبايعين.

أذيتِ يَمّا و أذيتِ.. لا بأس.. ليس هذا وقت الحساب و لا وقت العتاب، هذا زمن الصبر و هذا زمن صمت العواصم النبيلة و ما عهدناكِ إلا كذلك. و هذا زمن الصبر حتى تمر المرحلة، يلعن أبو المرحلة.

@عمون نيوز