على الحافة وجوه وشخصيات وقفت أمام اختبارات متعددة وتحديات نوعية، البعض تمكن من اجتيازها بشجاعة، والبعض تدبر أمره بطريقة أو بأخرى، ولكنهم تركوا بصمتهم الخاصة في الكاتب سواء كانت علاقته بهم قائمة على معرفة وثيقة أو متابعة متربصة، بعضهم مطاردون بالأضواء والفضول، وآخرون مفتقدون في ليالي الظلمة والجحود، والبقية من المهمشين والمنسيين. هذه شهادات تشتمل على بعض من البراءة، وقسط لا بأس به من سوء النية في نفس الوقت، ولا يخلو الأمر بطبيعة الحال، من مشاعر مضطربة وقلقة ومتراوحة بين العشق والإعجاب والمحبة واللوم والعتب والغيرة والحسد والغضب والحقد.. هذه الطبيعة البشرية لكاتب أخذ ينظر إلى العام من حافته الخاصة.
المحرر
عن مكر احمد سلامة
حضرت إلى الهلال للمرة الأولى في ربيع 2003، وكانت الصحيفة تعاني من مأزق كبير، فثلاثة من الزملاء كانوا يقضون حكما بالحبس لمقالة بعد نشر مقال استدعت وقتها كثيرا من الجلبة في الأوساط الإعلامية والفكرية، وبدا واضحا أن الهلال بدأت تتخذ مسارها الهبوطي الذي واصلته بصورة مستمرة وصولا إلى محطة التوقف النهائي، فالمشروع الذي تطلع أصحابه أن يكون بمثابة جريدة أسبوعية دسمة وجدلية لم تكن تتحمله المرحلة، ورحلة الهلال هي جزء من أزمة الصحافة الأردنية، وتدابير المشي على الحبل والرقص على السلم وبقية موسوعة الحلول الوسط والمناطق الرمادية، فاليوم نتساءل عن الإرهاب والتطرف، ونتناسى أن التنوير والتثوير وغيرها من المتطلبات الأساسية لصياغة عقل جديد تعرضت مرارا وتكرارا لعمليات الإجهاض وارتمت عارية على بلاط بيت الطاعة.
كنت نشرت مقالين عندما وجدت طاقم التحرير يتحرك بصورة حثيثة، ويصعد إلى الطابق الثاني، وبعد أقل من دقيقة، كنت أرى رجلا يماثلني في القامة القصيرة مع الميل للامتلاء، ويسير بخطى غير مكترثة، عرفني عليه الزميل ناصر قمش، كان الرجل هو أحمد سلامة، وفي حوار قصير وجه لي تحذيرا عابرا بألا أتسبب بكارثة أخرى للجريدة، وكان التحذير مفهوما من نوعية المواد التي قدمتها، فالأولى عن الشعر الجاهلي، والثانية، محاولة لتقديم صورة متوازنة وخارجة عن المألوف عن الخوارج، خلال بضعة أشهر لم يعد دوري يقتصر عن كتابة ثلاث أو أربع مواد في العدد الواحد، وإنما كان من الممكن أن ينيط بي ناصر قمش مهمة رئاسة التحرير، أو أن يبلغني طلبا شخصيا من أحمد سلامة بوضع العناوين لمادته أو إضافة فقرة أو فقرتين، وأحيانا، أن يترك لي تماما مساحته لأكتب المادة الرئيسية في الجريدة، ولم تكن هذه التفاويض المفتوحة لتغيب أي من الاثنين خارج الجريدة، ففي العادة كانت سلامة ومعه قمش، وحلقة صغيرة من الشخصيات دائمة الحضور، متواجدة بصورة متواصلة في الطابق الثاني، الذي كنت أشعر لأسباب كثيرة بأنه ليس مكاني المناسب.
“كنت أحب قراءة ما يكتبه سلامة، يرجع ذلك لاحترام متأصل في داخلي للهندسة اللغوية القائمة على النمط الزخرفي الشبيه بعمارة العصور المساجد العثمانية، صحيح، أنني كنت وما زلت، أحاول أن أكتب بلغة بسيطة وبيضاء بقدر الإمكان، ولكن تعايش سلامة مع لغته، وقدرته على تطويع هيبة اللغة في نصوصه كان يجذبني إلى حد كبير، أما بالنسبة للمحتوى، فوجدته يستدعي في داخلي العديد من المخاوف والتوجسات، فالرجل كان يرى مسارات واتجاهات متداخلة، ويمتلك ذاكرة تبدو محفوفة بالمصاعب، وبالنسبة لشاب كان يحاول أن يجد مكانا تحت شمس البيروقراطية في الأردن، كانت هذه مسألة غير منتجة على الإطلاق.“
في أحد مقالاته وجدت سلامة يحذر من ظاهرة الصالونات السياسية في الأردن، وكان ذلك دافعا لقراري بالتطفل على مجريات الأحداث في الطابق الثاني، فالرجل الذي يستعرض مخاطر استفحال الصالونات السياسية التي بدأت تتكاثر كالفطر في مزارع الأردن من شماله إلى جنوبه، يدير أحد أكثر هذه الصالونات حيوية وتعقيدا، فالأضداد تجتمع بصورة متواصلة وكأن سلامة يمسك بيديه صكوك الغفران مثل بطريرك من العصور الوسطى، لم تكن غرفة اجتماعات وإنما حائطا للمبكى، بعض من الأسماء، كانت في بداية الطريق الذي سلكته لتصل إلى مناصب مهمة وحساسة، وغيرهم، كانوا ما زالوا يعيشون صدمة الخروج من المنصب، ويعانون من الأعراض الانسحابية لمدمني السلطة، وبين تلك الكيمياء المعقدة، كنت أشعر أن الوضع سينفجر بطريقة أو بأخرى، ولكنني أدركت في مرحلة متأخرة أن سلامة يعرف تماما الكسر المليوني من الثانية الذي يتوجب عليه أن يرفع أنبوب حمض الكبريتيك المركز عن إناء الماء المقطر.
“طريقة تفكير أحمد سلامة تشبه استراتيجيته في الكتابة، يقدم الكثير، ولكن ما يحتفظ به للنهاية أكثر، لديه كروته الخاصة التي يعرف أنها يمكن أن تحسم اللعبة، ولكنه يتساءل عما سيفعله لو انتهت هذه اللعبة، ثم أن ردود أفعال اللاعبين القلقين من الكروت التي يداعبها سلامة من وقت لآخر مستخدما التربيت بالإبهام أو الطرق بإصبع السبابة، تغريه بأكثر من المكاسب التي يمكن أن يحققها، مكر من طبيعة خاصة، وسأضطر أن أذكر بأن الله عزوجل وصف نفسه بخير الماكرين، وأحمد سلامة يمتلك ناصية المكرين، ما هو خير وما هو سوء، ولكنه يتعفف في اللحظة الأخيرة، وفي كسر مليوني من الثانية، عن المكر السيء الذي لا يحيق إلا بأهله، وهو ما بقي سلامة يتجنبه المرة بعد الأخرى، حتى أصبحت هذه طريقته في الحياة.“
من هم أهل أحمد سلامة الذين يوفرهم من المكر، ويبعدهم عنه، بالتأكيد ليس الأهل في هذا السياق هم الأقارب البيولوجيين وورثته الشرعيون، ولكنهم، مفهوم أوسع، الرجال الذين يحلمون بمكان تحت الشمس، سواء كانت شمسا بيروقراطية أو دبلوماسية أو سياسية أو اقتصادية، الريفيون الطيبون الذين اعتقدوا لفترة من الزمن أن ثمة متسع لهم في المدينة المزدحمة، فسلامة بقي دائما بعيدا عن لعبة المزاودات والمناورات، وعلى الرغم من جميع الإغراءات في مرحلة ما من حياته، فإنه لم يجلس ليغني موال الحقوق المنقوصة، ولم يتحول إلى مسافر بين الأزمنة ليقتنص لحظات الضعف والخوف والجشع التي لا تستثني أحدا من ظلالها الثقيلة أو مخالبها الحديدية، ولكنه جلس هادئا، يحاول أن يسدي النصيحة بطريقة أو بأخرى، ويسعى لأن يبحث عن متسع يمكن أن تقف عليه الأقدام المرتجفة والمتعبة، يمكن أن يفعل ذلك بسخرية في بعض الأحيان، وبمرارة في كثير من الأوقات، وفي الأوقات الصعبة، وبينما الأمور تتجه للهاوية فإنه كان يفضل أن يحتسي كوكتيل السخرية المريرة.
“لم أتمكن من الاندماج في صالون أحمد سلامة، وإن كنت أعتقد أن مخاوفي القديمة ليست في محلها، فصالون سلامة كان يحاول أن يرتق ما يتهتك فيو و صالونات أخرى، وأن يحبط ما يتفاعل في مواقع ومساءات كثيرة، ولكن اليوم، متأكد من أن تجربة الهلال التي جرى وأدها في خضم الفلكلور الوطني الأردني المتعلق بالمناكفات والممحاكات والمناكدات كان يمكن أن تكون خطا للمواجهة أمام الفكر المتطرف والانتهازي والازدواجي الذي يعانيه الجميع، سواء من المستلقين على أكتاف الدين والمحتكرين لخطابه، أو من المتمددين تحت أضواء النيون الفاقعة للشركات متعددة الجنسية”.
اليوم، تحاول الأردن أن تنقذ صحافتها اليومية، الثور الجديد الذي لم يكن يعلم بأن دوره سيحين منذ أن أكل ثور الأسبوعيات الأبيض.
@الاصلاح نيوز