دفع إلي ابن استاذي ووريثه في الخلق والحب الدكتور، حسن جمعة حماد، بكتاب السيرة العطرة لوالدنا جميعا، طيب الله ثراه، الأستاذ جمعة حماد. وحين أقول “والدنا”، فإنني لا أتجاوز على الحقيقة!.
فعمر بن الخطاب سيد الدولة العادلة وأول الإمارة في دنيا العرب، حين أجرى حوارا مع الخليفة علي بن أبي طالب معاتبا إياه لتأخره في القدوم إلى مسجد المدينة وإشهار بيعته للصديق، قال له هامسا (تقول في جلساتك مع بني هاشم، إنك إلى النبي أقرب. لكن يا أبا الحسن من قال غير ذلك؟! وإنما واجب عليك أن تضيف أنت في القربى إلى النبي أقرب منّا صحيح، ولكنّا في القرب نحن إلى النبي أقرب).
وعليه، فإن صلة القرب وصلة القرابة تتساويان في الولاء والمحبة. هكذا تعلمنا من قدواتنا أحباب الحبيب المصطفى صلوات الله عليه وسلامه. وهكذا أجزت أن أتشرف بالقول (والدنا).
أمّا بعد، فلقد فرغت من استرجاع لغة الأستاذ جمعة حماد وتجاربه على مدار عدة أيام مضت وعاد إلي روحا ونبضا وملهما واستاذا رحمه الله.
ماذا أقول فيه وفي كتابه النبيل؟ حسبي أن أردد في مطلع هذا الاستذكار من التابع للمعلم ما كان دوما يكرره على المسامع معالي العم الدكتور هاني الخصاونة ظلله الخالق بالرضا (أن الأوطان الصغيرة لا تنجب كتابا كبارا. ليس لعيب بهم ولكن أحمال المكان ترهق أصحابها). فلو كان المعلم جمعة حماد في بلد مثل مصر لكان بوزن رشيد رضا وزكي مبارك والعقاد ولطفي السيد.
تذاكرت والزميل سمير الحياري، فيما سأكتبه عن المعلم (جمعة حماد)، وفجأة وعلى طريقة المداهمة التي يتقنها الباشا (ليس بسبب خلفيته الذكية بل لموهبة المهنة تجري في دمه) داهمني باقتراح أملاه علي: لماذا لا تبدأ كتابة مذكراتك في الصحافة؟! وننشرها في عمون. كان مقترح الباشا (أبو أسامة) حقيقيا ومهنيا وهو أقدر منّا جميعا على اصطياد المثير في المهنة، لكني ترددت رغم أنني باشرت كتابة هذا المقترح لكتاب قبل عدة سنوات ووجدته غير صالح للنشر فأمسكت عن نشره. وحين داهمتني فكرة الباشا بالمذكرات رحت على صورة آلية إلى تلك السنين في مطلع الثمانينات حين أطل (جورج صالح خوري) والد الأستاذ رامي خوري في زيارة للاستاذ جمعة حماد بالرأي وكان يكتب مذكراته في الراي.
وحين داهمتني فكرة كتابة المذكرات على الصحافة، رحت على صورة آلية إلى تلك السنين في مطلع الثمانينات حين أطل (جورج صالح خوري) والد الأستاذ رامي خوري في زيارة للاستاذ جمعة حماد بالرأي وكان يكتب مذكراته في الراي.
أيامها دارت همهمات في أروقة الرأي أن المبلغ الذي خصصه الأستاذ جمعة حماد مكافأة للأستاذ خوري باهظة جدا، ويومها قال الوشاة أنها بالآلاف (وكان الألف تضحك له ثلاثة جبال في عمان في آن واحد).
واصطحب الأستاذ جمعة والاستاذ محمود الكايد الضيف الكبير إلى جولة عامة في الرأي، وقدمونا للأستاذ الكبير. أتحدث هنا عن عواطفي من غير أثر رجعي، وبصراحة لم أكن معجبا بما يكتبه الشيخ المحترم جورج صالح خوري، إذ كان يطنب ويسهب في ذكر قضايا خاصة من أمور أسرته وتعليم أبنائه، وكان ذلك مكمن استهجان عندنا ولا يكفيه ليظفر بكل هذه الحفاوة من الأستاذ الأول للرأي والمعلم أبو عزمي معا!
لكن، الله يشهد حين تعود بي الذاكرة لكل ما كتبه الأستاذ جورج خوري الآن أحسبه سفرا خالدا من أدب السيرة! ولا يعيبني الاعتراف أن مطالعاتي في تلك الفترة كانت تناوئ الفردية والاعتراف بقيمة الفرد كنت منغمسا في ثقافة “العقب الحديدية” لجاك لندن، وهي ثقافة وسمت جيل السبعينيات.
لماذا أعود لتلك اللحظة؟!
لأن واحدة من أجمل اطلالات الاستاذ الأول جمعة حماد الإشراقية كانت تلك اللحظة التي حاورته فيها بعد يوم أو يومين من زيارة الأستاذ جورج الخوري.
كان وجهه طافحا بفرح لا يضاهى وكان راضيا كما كان دوما، لكن حين حاورته من موقع الابن المدلل لديه، أتذكر الآن تعابير وجهه وهو يمد يده على درج مكتبه فيخرج ذلك النوع من السيجار (المعوَج، وكان غريبا علي) ويبتسم بملء روحه. ويقول: “يا مفقع” (وكان هذا تعبيره الحميم لنا حين يرضى) “روح تعلم كتابة السيرة وإقرأ فيها من سيرة ابن هشام حتى طه حسين وذكريات نائب بالأرياف للحكيم”. وأضاف بشيء من التقريع البهيج: لا يكفي أن تكون ماركسيا لتفهم الحياة (هكذا كان يداعبني). ومد يده إلي بكتابه الجليل الذي أرخ لأسفاره “بدوي في أوروبا”. ومن هناك رحت أتعلم منه وعلى يديه كتب السيرة.
ليس من إنسان بقادر على شمشمة الوعي والموهبة مثل الأستاذ الاول جمعة حماد. وإن بدا التعبير غير مناسب لكني لا أجد مماثلا له بالفصحى، فقد كان (خرمنجيا) ضاريا في استطلاع المهنية والمواهب، وكان أستاذ مهنة حقيقي.
أود هنا اليوم أن أذكر بعض حوادث وقصص عشتها معه وتعلمتها على يديه.
البدوي يحمل في صحرائه من أصل طبيعة الصحراء جملة من شمائل وخصال تخصه وحده: الترقب مثلا لجنون حركة الكثبان وريح السوافي، اللثام وقاية لأشياء تعنيه، وسيفه أو سلاحه الناري كلازمة له. لكن، أخطر ما في البدوي تلك اللماحة وكثافة التحديق وصرف المواقف عبر تحريك العينين.
كان الأستاذ الأول كتلة مكثفة للغاية في استجلاء البشر بعينيه. إن حركة عينيه تقلقك حد اتخاذك قرار الانهيار بالانبهار من تلك الحركة في العين التي تشبه الصقر قبل انقضاضه. وفي لحظة الرضا تميد الأرض كلها من رقة وسحر حركة عينيه.
كان في منتداه يجمع من لا مثيل بتكوينه النفسي في الأردن عبد الروءوف الروابدة، والأنيق بشدة طلةً وعلماً وملبسا طاهر حكمت، والقومي جورج حداد، والاستاذ ابن الاستاذ في المهنة رجا عيسى العيسى، وسحر سليمان عرار برقته وخفة ظله، وعبد الرحيم عمر بجمال معشره، ومفلح اللوزي بطيب أصله، ومحمود سعيد الذي لا يضاهى ولا يبارى ولا يتكرر ولا يقلد في ذاته. حالة نشوة يستشعرها الأستاذ الأول كان يرحمه الله، يستدعينا أحيانا ليقدمنا لسراة القوم حينا، ويباهي بنا أبناء جدد في المهنة حينا، وليهبنا فرصة الاستماع، كان يعلمنا فن الاستماع بطريقته.
الأستاذ الأول أبانا جمعة حماد في المهنة كان حلو المعشر وتطربه خفة الدم. ذات مساء أحضر له الزميل عطوة ابو معيلق مسؤول الرصد لوكالات الأنباء خبر اكتشاف سلطات يهود في حيفا عبوة ناسفة بححم هائل. فراح الاستاذ جمعة يقرأ الخبر بحسرة وحزن ويتوسل يا ريت لو مرت هالعبوة كان زعزعت أمنهم! وعاد إلى حزنه لاكتشافها قبل انفجارها. كان زميلنا خفيف الظل مدير مكتب الرأي في القاهرة قد جاء عمان في زيارة خاصة، ويتناول الشاي مع عدد من الزملاء تكريما من الأستاذ جمعة له. فما كان من صاحبنا أبو مهدي الاستاذ أمين القطب إلا أن يواسي أستاذه بالقول (ولا يهمك يا حاج، هلأ منفجرها!) فقال الأستاذ جمعة (كيف يا خوي بدك تفجرها)؟! أجاب أمين القطب (عمي الحاج، منضيف عالخبر إنها انفجرت). وفرط الأستاذ ضاحكا (لعنة الله عليك يا مفقع.. هيك صارت الصحافة!؟) وذهبت مثلا في المهنة (هلأ منفجرها).
ذات يوم أغلق معالي ابو السعيد (عدنان أبو عودة) رحمه الله وزير الاعلام الفذ صحيفة الرأي إغلاقا قاسيا، وكانت القصة ذاهبة إلى درجة إلغاء امتياز (ترخيص) الصحيفة، وذلك لخطأ في النشر اقترفه أحدهم عن لقاء الحسين رحمه الله بإسحاق رابي، وكان ذلك في مطلع الثمانينيات.
وتحلقنا من حول الأستاذ جمعة حماد وهو يلملم أوراقه من المكتب، وتبين لنا أن ساعة انتهاء الرأي قد دنت. كان هناك في المكتب عمر عبندة ومجيد عصفور وهاشم خريسات وعدد آخر كبير من الزملاء والزميلات وكنت أحدهم. تجرأنا عليه وهو واجم غامض لا تقول عيناه إلا الحزن، والتمسنا منه أن يخاطب سيدنا معتذرا. ولم يقبل الفكرة، وقال ماذا سأقول له؟ ( أي الحسين رحمه الله) أن الجريدة التي أديرها ووهبتني إياها هدية تتهمك في وطنيتك؟!
وحاولنا وحاولنا، وكان يردد (لكم الله، إن شاء لله تترزقوا بغير هالمكان). وأضحى مزاجه مداعبا أكثر من غاضب وحزين، وفجأة بدأ يصنفنا (فلان محسوب عالأجهزة رح يتدبر، وفلان موهوب والموهوب لا يضام، وفلان رح يرجع لقريته ويشتغل بالزراعة، ونظر في فلان فوجده وحيدا وفاقدا أي أمل، فقال: أما أنت يا ولدي – وانتقل الأستاذ إلى صورة التصوف – فلك الله ويكفيك وعده “وما من دابة في الأرض إلا وعلى الله رزقها”). وجدت نفسي مغرقا في الضحك وأنا أسترجع تلك الصورة، وزميلنا ذاك يشكر الأستاذ على إيجاده هذا المخرج له!
بالعودة إلى الإلحاح وصلنا الى مرحلة القبول من لدنه ان ترفع سماعة الهاتف ويطلب من صلاح أبو سليم، مأمور مقسم الرأي العتيد، الاتصال بالمقر ليهاتف الأستاذ جلالة سيدنا. ما زالت أجراس الفرحة التي بدت تدق في نبرة صوت صلاح تصلني إلى هذه اللحظة. استبشرنا وتساءلنا (يعني في أمل)؟ كان الجواب على طلب المهاتفة (أنه تم تمرير الطلب، ومنرجعلكم). حزن الأستاذ أنه رضخ لتوسلاتنا، وقال (الله يسود وجوهكم)، لإنه اعتاد أن ياتيه الجواب في الحال. ساد صمت مقلق مكتب الأستاذ، وفي غضون أقل من خمس دقائق كان سيدنا رحمه الله عاد باتصال.
الله، كم تهلل وجه ذلك الأستاذ بالحب والطاعة والحياء. وكم كان في حديثه رقيقا مثل نسمة وكبيرا بحجم وطن (والله أنا خجلان منك يا مولاي، والاعتذار لا يكفي) وكأننا سمعنا صوت الحسين الذي كان يجلجل من بعيد (أنا مسامح بحقي يا أخ جمعة، والرأي جريدتنا ما منفرط فيها وبدها شوية انتباه يا بو أسعد).
عادت الرأي لنا، وكلما أتذكر تلك الفرحة الدافقة من عينيه أتذكر قولته (الصحيفةً مثل الابن وإغلاقها يتساوى بألم وفاته) وينهي (الصحيفة يلي فيها لله، ربنا ما بعثرها). كان الأستاذ كريما جدا ينفق على ذوي كل حاجة ولا تدري شماله عن يمينه. قال لي وهو يعلمني الوطنية الأردنية ذات ليل في مكتب بيته (يا ولدي ستكبر ويكون لك قيمة في المهنة، دوما تذكر نصيحتي لك، الأردن للفلسطيني ولكل العرب آخر المعاقل، لأن الهاشميين يرون في خدمة الأمة واجب ديني)، ويكمل أستاذي جمعة حماد (كل من يتحدث عن الوحدة الوطنية في الأردن إما أنه سطحي أو لا يفهم الأردن. الأردن وفلسطين بلد واحد قبائله واحدة متداخلة ومدنه بينهما وشائج تاريخية، وقيادته عربية بالدم وبالرسالة). كان جمعة حماد (دواس ظلمة) لا يرف له جفن في التصدي لمن يفكر النيل من الأردن والأردنيين وكان ابن جهامة نسابا عميقا يعرف كل بيت شعر وكل سحنة، كان الأستاذ جمعة حماد رسالة في وطن.
حين وقع السادات معاهدة كامب ديفيد خرجت الرأي على صدر صفحتها الأولى بعنوان “صك صلح عشائري” قلم جمعة حماد. لقد خلخل ذلك النص كل دشمة من دشم الشرق الأوسط كان وصفا ساميا قبليا لفعل تنازلي دنيء من السادات، كان ذاك المقال جوهرة تاج كتابة جمعة حماد إذ لم يبق لا سفير ولا مواطن ولا رئيس إلا وعمل مداخلة ثناء على طول الوطن العربي على ذلك المقال.
رحمك الله أبو أسعد استاذا لا تتكرر.