البحرين: احتفالات الأردنيين بـ (الاستقلال) تتوج بمحاضرة للمفكر أحمد سلامة

تاليا نص محاضرة المفكر أحمد سلامة :

ليس وحدها أمة العرب من صنع فكرة الاستقلال بمعنى فرد رايتهم الخاصة بهم لتظلل ديارهم كافة.

و لقد تزامن على هيئة القدر مصير أتباع ديانة. و قومياتٍ ثلاث منذ 1897 في مسعاها لنيل الاستقلال.

كان أول المتحمسين من أتباع الديانة اليهودية صحفي مرموق هو ثيودور هيرتزل هزه عنف الحقد المسيحي على يهودي في فرنسا و صعقته مظاهرات الاحتجاج عام 1894 التي أخذت صورة ذلك الحقد على ضابط فرنسي ديانته يهودية يدعى (درايفوس) أُتهم بخيانة الجيش واندلع الصراخ ثأرياً في أزقة باريس و حواريها (الموت لليهود!!).

من وحي هذا التعميم صنع ثيودور هيرتزل مشروع الدولة اليهودية و عقد له مؤتمراً أول في بازل بسويسرا عام 1897. لقد جمع ذلك المؤتمر ربع فكرة اسمها اللاسامية إلى طموح كاتب صار مفكراً إلى توحش بعض القارة الأوروبية ضد اليهود، تُوّج ذلك كله في نازية هتلر التي مهدت الدرب واسعاً لصنع شرعية التزاوج بين الدين و القومية فوق أرض فلسطين تحت راية دولة اليهودية (إسرائيل).

على الضفة الأخرى من التفكير القومي كان ثمة مفكر عربي حلبي يرد نسبه إلى آل البيت هو عبد الرحمن الكواكبي قد فاجأ السلطان عبد الحميد و الإمبراطورية العثمانية المترنحة بفكرة الاستقلال العربي عن دولة الملة في كتابيه ( طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد) و (أم القرى).

هل بالمصادفة قد وقع أن الكواكبي و هيرتزل قد انبثق تفكيرهما بتناقض في الدوافع و النوايا و تطابق في التوقيت؟؟؟ لقد كانت محاولة الكواكبي النظرية والفكرية لاسترداد الخلافة وإعادتها إلى قريش و التبشير بإقامة ديمقراطية تضم العرب وحدهم أول ارهاصات التفكير القومي العربي، و لم يطل المقام بشباب العرب في مشرقهم العربي ليبلوروا ذلك حين عقدوا مؤتمرهم الاستقلالي الأول في باريس عام 1913. لقد دقت كلمة ((استقلال)) بوابات العرب في مشرقهم عنيفة مدوية هذه المرة وكان رد جمعية الاتحاد والترقي المهيمنة على مقاليد الحكم في أسطنبول دموياً هو الآخر.

و بعد ثلاث سنوات تدحرجت رؤوس شباب المؤتمر من على الجثث المعلقة على أعواد مشانق جمال باشا السفاح 1916 ثمناً لذلك الطموح.

لقد مضى عبد الحميد الزهراوي و جوزيف هاني و عبد الغني العريسي و محمد المحمصاني ورفاقهم شهداء استقلال لم يطل انتظاره في مذبحة غير إنسانية في عاليه اللبنانية الاستقلالية، تلك المذبحة تركت لنا ثلاث حكايا؛

أولاً: لون العلم.. أكرم اللبنانيون ذكرى صناعة العلم العربي حين صارت بيروت ترنو لدولة الوحدة الشامية عام 1918 لما وصل الأمير فيصل ابن الحسين إلى دمشق معلناً دولة العرب المستقلة باحتفاظهم بذاكرة ماكرة نبيلة، إذ أن من تشرف برفع العلم العربي على سراي بيروت كانت هي فاطمة الحمصاني (أو المحمصاني) و هي شقيقة محمد المحمصاني الذي استشهد قبل سنة من ذلك بعد أن ترك للعرب في زنزانته ألوان علمهم حين كتب في ليلة الإعدام لرفيقه عبد الغني العريسي: “غداً ستشرق شمسنا من جديد على روابي بلدنا النضرة الخضراء، بعد أن يعمد جيل العرب الجديد بدمهم القاني الزكي أرض بلادنا ليندحر سواد الظلم العثماني عن بلدنا و تشرق شمس الحرية بيضاء ناصعة” … وهكذا ولد العلم العربي بألوانه المعروفة.

ليس مصادفةً أن هذا العلم هو الذي لم يزل بعد علم المملكة الأردنية الهاشمية ، العلم الوحيد الذي احتفظ بهذه الحكاية.

الحكاية الثانية،،

لما دخل الأمير فيصل ابن الحسين على صهوة حصانة يقود آلافاً من فرسان الحرية و العروبة إلى دمشق (سنة 1918) و خرجت صبايا دمشق سافراتٍ لأول مرة عن وجوههن بتجدد لقاء فرسان و أمراء الجزيرة العربية مع دمشق واستقبلنه حاكماً عربياً أول مرة منذ أفول العصر الإمبراطوري العربي لمئات من السنين خلت.. صدحت الشام لأول مرة: (زينوا المرجة) .. في الوقت الذي شمشمت خيول العرب الزاحفة روائح الياسمين الذي نثر فغطست الخيول حتى الركب، من يومها صار الخيل و الياسمين في بلادنا بطعم واحد.

كان الياسمين الدمشقي أول الإرادة لتوحيد المشرق العربي في مملكة هاشمية تضم سبع ولاياتٍ في بلاد الشام كلها و ترنو إلى شرعية من قلب الجزيرة العربية وتنتسب إلى السبع المثاني و كان الياسمين الدمشقي أول السبع المثاني وأول النجمة السباعية وهكذا أضاف رعيل كامل القصاب شيخ دمشق ويوسف العظمة شهيدها اللحوح في ميسلون النجمة السباعية للعلم العربي.

و ليس مصادفة أن النجمة السباعية تزين علم المملكة الأردنية الهاشمية، بل هي ذات النجمة بذات التطلعات لم تزل.

الحكاية الثالثة، في أول خطاب لفيصل ابن الحسين، ذلك البهي النبيل الذي غنت له دمشق: آه يا لدن، يا سادة العربان، يا للي.. وو اللدن باللغة العربية هو الشاب الطري.. في سنة العشرين بعد أن صار ملكاً على كل سوريا، هو من صنع بخطابه في حلب شعار: “الدين لله و الوطن للجميع” ولقد سُرِق هذا الشعار من كل رفاق الأمة فيما بعد لكنه شعار عربي فيصلي هاشمي.. فهل ما زال متسع لهذا الشعار في بلادنا !؟

اليوم يُستقبل قداسة البابا حبر المسيحية الأعظم في المملكة الأردنية الهاشمية مقدمة لزيارة الأردن، متساوقاً مع الاستقلال، هل هو قدرةً أردنية لم تزل ترنو أن تظل الصدى لذلك الشعار الجسور قبل قرابة مائة عام.. الدين لله و الوطن للجميع؟؟ لقد استقبلت عمّان الحبر الأعظم بما يزيد عن خمسين ألفاً مسيحيين و مسلمين.. الدين لله و الوطن للجميع.

كان الشعار هاشمياً في حلب و لم يزل الاستقبال النبيل لقداسة الحبر الأعظم هاشمياً في عمّان.

أعود للأمة الثالثة، كان في تركيا ثورة حقيقية في الإدارة تتطلع لإصلاح جذري قد باشرت هي الأخرى على ضفة الزمن ذاك وتم عنونتها (إصلاحات مدحت باشا 1876).

لقد أنتجت تلك الإصلاحات على مدى خمسين عاماً حقيقةً واحدة أن الترك لا يريدون غيرهم في إمبراطوريتهم في السلطة وعلى مهلٍ صنعوا الاتحاد والترقي، وعلى مهلٍ أكثر خلعوا السلطان و الطربوش و حروف اللغة العربية.

كان إصلاح مصطفى كمال أتاتورك ثورةً إيديولوجية ممتدة الجذور في الوجدان التركي ترفض أن تتقاسم مع أية أمة مجاورة صولجان الحكم أو تتناصف معها في مؤسسات الدولة وعلى رأسها (.؟.)

و لئن كانت تلك الثورة التتريكية قد تخلت عن العثمنة و الإمبراطورية فإن العثمانيين الجدد اليوم يسعون لاسترداد بعض وجدانٍ إسلامي و إن كان في نطاق حزبي (الإخوان المسلمين).

أما إيران، أمة العشق الأزلي للنار والجبال حيث تخطت مجوسيتها بدهشة المؤمنين المولعين حد التشيع بالدين الجديد (الإسلام) فإن هذه الأمة المذهلة في تعلقها بالموسيقى والفستق الحلبي قد اصطنعت خلطة ذهنية لا يستطيع أن يقدم عليها بجسارة إلا هذه الأمة نظراً لخصوصية تكوينها النفسي.

فــ بابك الخُرّمي، واحد من أساتذة المزدكية الخالدة التي تؤمن بالرجعة والصعود قد ألهمت الأمة الجديدة بمعاني ((المنتظر))، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات في رؤية هذا المنتظر، و تلك قصة كبيرة لهذه الأمة الكبيرة، لا يستطيع أي منصفٍ أو محايد أو مغرض إلا الاعتراف لإيران الأمة التي تربض على تخومنا باسطة ذراعيها على وصيدنا تذكرنا دوماً و تلح أن خليجنا ليس عربياً و لكنه فارسي و تدق في كل ضحى على قلوبنا وضمائرنا بأنها الأقرب إلى التدين و آل البيت، لهذا هي انفردت بتأبيد الدولة في الدستور بمذهب واحد.

كيف يستقيم الحال بين صفة الخليج بأن يكون فارسياً و بين وظيفة الإيمان القائم على أمر من الرسول صلى الله عليه و سلم بأن (أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، و لغة القرآن عربية و لغة أهل الجنة عربية) .. وهذه واحدة من مزايا الحب بيننا وبينهم..

مرة ثانية، لا يستطيع أي منصف أو مؤرخ أو قارئ للتاريخ إسقاط الحبل السري أو قطعه الذي يجمع بين طموح إسماعيل الصفوي في صناعة الأمة و شاه إيران في صناعة إمبراطورية و المرحوم آية الله الخميني الذي حلم بتصدير الثورة والصحوة. و في كل لحظة في التاريخ لهؤلاء قصة معنا اندفاعاً أو انكماشاً و لكن المحصلة النهائية هو أن الاندفاع الحنون لإيران كي يملأ فراغاً للعرب لاح لهم فجأة هاجساً عاطفياً و نفسياً، وكدت أن أزل فأقول جغرافياً أيضاً.

إن الاندفاع المرغوب لأمة النار والنور إيران سواء بعود زرياب أو رباعيات عمر الخيام وعظيم خيال متنبي إيران الفردوسي أو بقوة الامتطاء للفيل في مواجهة الحصان العربي كي يربكه أو في سطوة الاجتهاد و المجاهدة في فهم النص و تأويله سيظل اندفاعا مشوباً بالقلق لأن العرب مهما أطبقت عليهم الفراغات فإن عامل التحريك الأساس لإيران، و تركيا معاً، هو نفسه ( الزر النووي للعرب).. أعني: النص المقدس الذي قهر الله عباده بوعده الأزلي (( إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم..)) و ترك العقل أو التعقل حكمة لمن يريد أن يتعقل، كما تُرَك خيار حيازة الزر النووي الآخر للتفاوض و ليس للواقع.

هذه أمم أربعة في قلبها صورة المشرق العربي يتماوج البشر فيها مثل رمال متحركة قرابة المائة وخمسين عاماً و مخطئ من يزعم أن استقلاله الوطني قد أنجز بصورة مطلقة حتى لو أن الأتراك أرادوا زعم ذلك فإن المسافة في التطبيق بين أردوغان و عصمت اينونو مثل المسافة التي تجمع بين دور العراق في أزمنته الأربعة تفاوتاً و قيادة.

و برغم ذلك فإن الاستقلال السيادي للدول و نحن نلتقي اليوم في ظلال ذكرى استقلال المملكة الأردنية الهاشمية الحبيبة، فإن الاحتفاء بالاستقلال لا يأخذ طابع الهيام والتغني ، رغم الحاجة إليه أحياناً، لكن الاستقلال كهدف سامٍ حققه الأجداد لنا ونحن ورثة النجمة والعلم يجب علينا أن نضعه في السياقات الثلاث التالية:

أولاً: إن استقلال المملكة الأردنية الهاشمية هو استقلال كان من غير دم، رغم أن أعداءه قد خضبوه بدمائنا وفي ذلك حكمة أن الدول تستطيع صناعة أسمى ما تناله بالعقل الجمعي وبالقيادة التاريخية الراجحة ، و لا يعني هذا أبداً أننا لا ننحني في كل يوم للمليون و نصف المليون جزائري الذين قدموا مثلاً للتاريخ و الأمة في نيل الاستقلال بالدم إن لزم ذلك.

ثانياً: إن الأردنية ليست جملة من حارات أو مناطق أو أقاليم، و الأردنية ليست جغرافية مدججة بالنفط أو بالخير العميم، و الأردنية ليست حزباً دعوياً ادعى أن الأمة استبدلته ليحارب عنها و يحقق أهدافها النبيلة. و كل العذر من أخوة الحب الأخوي، أتباع حزب البعث العربي الاشتراكي، فإنني أقول إن البعث قد ألزم نفسه برسالة خالدة تبعث للأمة مجدها وتثبت وحدتها و لكن البعث قد ترك قاعدتيه، العراق و سوريا، في حالٍ لا يسر أحداً من أبناء أمة العرب.

لقد عبرت المملكة الأردنية الهاشمية عن معنى سامٍ في روح الأمة و معانيها، كيف لدولة المركز أن تدمر ذاتها كما شهدنا و كيف للدول الصغيرة، موارد وبشر، أن تصنع ما يسمى باستبدال (المورد) (بالدور).

إن الأردن هو دولة الدور ومملكة الدور ورسالة الدور ولذلك كانت للعرب و لكنها لم تدّعِ الإنابة عنهم، و لقد كان دور المملكة الأردنية الهاشمية في معنى الاستقلال إنها حاضنة للمعنى الروحي للوحدة و ليس لمعنى الإلحاق أو الضم القسري.

ثالثاً: في ذكرى استقلال المملكة الأردنية الهاشمية لا بد أن الشعوب و الأمم تفقد استقلالها بخطأ تاريخي و لهذا وجب على كل محبي استقلال المملكة الأردنية الهاشمية أن يحفظوا وسائل درء الخطر عن استقلالهم، ذلك لأن الإبقاء على استقلال الأردن على معنى حصري يعني أن روح الأمة لم تزل بيرقاً في أيادينا و أن روح الأمة هي أسمى من استقلالات كياناتها الصغيرة.

لذلك فإن الأردن ظل مثابراً على أن تبقى كلمة (الاستقلال) في خدمة روح الأمة و التبشير بها. أوليس غريباً أن بلداً في صورة المملكة الأردنية الهاشمية يُعطى المسيحي فيها أرفع منصب في الدولة بعد منصب رئيس الوزراء و هو منصب رئيس الديوان الملكي الهاشمي/ وزير البلاط.

إن ذلك كان و سيظل وفاء لفكرة الصرخة الهاشمية الأولى: الدين لله و الوطن للجميع.

أوليس غريباً أن أول شهيدٍ لحماية الاستقلال كان الهاشمي المؤسس و كان الثاني شهيد السلطة التنفيذية أول رئيس وزراء يمضي ليعلم بعده روح التفاني للأمة و الوطن، كان إبراهيم هاشم، كله نابلسياً، و معه سليمان طوقان، كله نابلسي أيضاً (1958).

و ما كان ذلك لو لم تكن الرسالة للوطن الأردني مشدودة لفكرة النجمة و العلم .

أوليس غريباً أيضاً أن يكون رئيس وزرائنا في اللحظة الذي فقدنا فيها القدس و الضفة الغربية بحرب لم تكن من خياراتنا و لا تخدم استقلالنا الوطني و لكنها كانت خدمة لرسالة الأمة وتلبية لتأكيد روح الوحدة الذي كان ملهمها وقائدها في تلك الحقبة الزعيم المصري الخالد جمال عبدالناصر، أوليس حكمةً أن رئيس وزرائنا كان حينها كردياً كله، هو المرحوم سعد جمعة، في الوقت الذي كان فيه الأكراد في ديارهم يحرمون من حق المواطنة.

ماذا بعد؟

نقول أن الاستقلال الأردني رغم القلق الذي يضغط على البعض فينحاز للاستقلال كمفهوم على حساب الرسالة عندنا، فإنني أتطلع دائماً لأن يظل الأردن في خدمة رسالة أمته وأن يكون استقلاله رمزاً من رموز هذه الرسالة و التعبير عنها بصورة دائمة.

إن الذين يقولون أن الأردن يعيش على أزمات دول الجوار قد أهملوا المعاني السامية لدور الأردن الدولة و الرسالة. إن تعاطي المملكة الأردنية الهاشمية مع ملايين العراقيين و مئات آلاف الفلسطينيين من قبلهم و كذلك بعض الأشقاء اللبنانيين في محنتهم الأولى في الحرب الأهلية ثم انفتاح القلب الأردني لأهل الحب الدمشقي الذين قدموا إلى بلادنا؛ و هي بلادهم بمعنى الرسالة و بلادنا بمعنى الاستقلال.. نقول أن ذلك يعني إننا نحن دولة ((المفتاح)) و دولة الدور الذي استطاع أن يحافظ على استقلاله و يكون ملاذ لأشقائه.

أحب أن أنتهي من هذه الفقرة بالقول أن جلالة المغفور له الملك عبد الله ابن الحسين طيب الله ثراه، مؤسس المملكة و صانع الاستقلال على هيئته و هواه، و هو الذي جعل من الأردنية رسالة و ليست محض فكرة استقلال وحسب لا يجوز لأحد التخلي عنها و ليس من المستحب أن نلوذ بجغرافية و نتناسى دورنا، لقد كوّن المؤسس مملكتنا على نبؤة له صدقت، يرحمه الله، حين وصف الذين يأتون إلينا ليسوا باللاجئين و لا بالنازحين ولا بالمهاجرين أو المطرودين من بلادهم، بل تبنى أرفع وصفٍ لهؤلاء الإخوة حين قال مُرحباً بالفلسطينيين: ((الذين فاءوا إلينا))، تخيلوا ما أرق هذا هذا الملاذ في مقابل المشاريع الموازية.

نحن أيها الإخوة و الأخوات أهل فيءٍ و أهل حِمى، و لسنا دولة تنتظر أزمات غيرنا للاعتياش.

لقد استلهم الملك المؤسس من جده الرسول الأعظم صلى الله عليه و سلم، قدوته و مثله، قد انحاز لدور المدينة المنورة على مكة المكرمة رغم كل قدسيتها بعد حنين و عاد إلى مملكته الأولى (بالمناسبة نحن الذي أهدينا الغرب المتوحش فكرة المدينة العاصمة –City State- فدولة الرسول ضمت اليهود “لهم ما لنا و عليهم ما علينا”) – مملكة المدينة المنورة، فهي المدينة التي خلقت الدور و صنعته لكل أمجاد الأمة اللاحقة لأنها كانت هي دولة الدور ومركزه.

أقول كل هذا في ذكرى يوم استقلالنا هذا بضرورة تذكيركم جميعاً بأن الأمة تجدد نهضتها من جديد رغم كل ما ترون و تصنعون و تصنع أملها على نحو بهي.

لا تخافوا من الربيع العربي فهذه جريانات فرعية لنهير هنا أو وادٍ غير ذي زرعٍ هناك، لكن نهر الأمة العظيم هو نهرٌ يهدر بكل ما هو قادم مشرق.

دعوني أقول لكم إن الذي جرى و يجري في مصر، و هي أم نهضتنا الكبرى و معاركنا الكبرى منذ عام 1882، صنعت جيشاً حاول أن يوحد كل أمة العرب، أخفق مرة و نجح في عدة مراتٍ أخر، لكن هذا الجيش و في هذه المرة و مع ضراوة دور المرأة المصرية المقدام، و قامة الأزهر التي شمخت و ارتفعت فوق قامات الاجتهادات كلها و استرد حيازته لفهم الشريعة العصرية و حوزته في الاجتهاد و بوجود زعيم كاريزماتي جمع البندقية لروح العصر مع الاسلام الحنون، لا بد أن يشكل هذا الثلاثي من أقانيم مصر العظيمة أملاً يلوح في ظاهر اليد و لا بد أنها ستحفر على زند مصر والأمة وشماً يطبع صورة العرب الواثق من جديد.

إنه و مع تحفظي بالكامل على الألم الذي يجري في العراق و سوريا الشقيقتين، فإن روحاً جديدة للأمة تولد من جديد و إذا ما تمكن التحالف الثلاثي- الجزيرة العربية/مصر/بعض المشرق العربي- من المرور من بوابات الاستقلال الوطني إلى ميدان الأمة الواسع، فإن عصراً للعرب قادم جميل.

يحلو لي أن أتوهم بأن من يبالغ في أمر الاحتراب المذهبي والطائفي الذي يُصوّر على إنه ثقافة سائدة طغت على روح الأمة – أحب أن أتوهم أنه لم يقرأ تاريخ الأمم بعنايةٍ من قبل، بل إنني أجازف بالقول من تجربة شخصية عشتها في مملكة الحب هذه- في البحرين- و مراقبة واعية قلقة للذي جرى منذ فبراير 2011 حتى الآن، أقول أن هذه المملكة القليلة في عدد سكانها، العظيمة في روحها المنبعثة، تستطيع أن تطمئننا جميعاً كعرب و تؤكد و تدحض واقعياً فرية أن العرب قد انزلقوا إلى حروب طائفية مذهبية. أقول هذا بعد أن قدمت البحرين حكمة قيادة و وعي شعب و تسامح مذاهب و حرصاَ على التعايش نظريةً بشّر بها الألمان منذ القرن التاسع عشر. تلك النظرية تقول: الناس ضحايا للثقافة السائدة.

هل أقول لكم إن البحرين و على مدار سنوات أربع لم ينل بحريني من مذهب ما ببحريني من مذهب آخر دماً أو مالاً على أسس طائفية بصرف النظر عن ما وقع من تفاوتات أو تجاوزات بدوافع أخرى.

إن الثقافة السائدة في البحرين تؤشر على حقيقتين: إن العصر الإمبراطوري لدول الجوار التي تطمح بذلك على حساب العرب، حتى لو وصل مداها شواطئ المتوسط، فإن عروبة البحرين ستظل خنجراً يلمع في وجه خصوم العرب، و إن الثقافة السائدة في مملكة البحرين هي ثقافة تطمئن كل عربي إن العرب تستهويهم فكرة الرسالة و فكرة التسامح.

لم يبق لي سوى القول إن تجربة مصر العظيمة بتنحية الحزب الديني عن السلطة في مصر قد جنبت الأمة فكرة جواز يهودية الدولة لإسرائيل، ذلك إن إيران الجارة هي دولة دين و مذهب و حصنت ذلك بدستورها، و تركيا دولة باشرت رقصة التانغو مع الحزب الديني و لست أدري مآل الأمور هناك إن تدينت الدولة و لم يكن قد بقي على إعلان شرعية يهودية الدولة سوى إقرار أن قاعدة الأمة و مروحتها الحضارية (مصر) قد أذعنت لإخوانية الدولة..

و بهذا يكفي إن إسقاط معنى الحزب المتدين من سدة حكم الاتحادية في المحروسة يبشر بميلاد أمة و يفضي إلى أمل يحق لنا أن نفرح باستقلالاتنا الوطنية و أن نهنئكم بعيد استقلال المملكة الأردنية الهاشمية الذي نحتفل اليوم به و قداسة الحبر الأعظم بين ظهرانينا، و إنني أبشر بغدٍ عربي كله بهاء و ملامحه كلها مصرية.

تركيا مهمة في التاريخ- نعم، و إيران قادرة في المذهب و متحمسة له- أعترف بذلك و أقول نعم، و دولة يهود في فلسطين أو جزء منها دولة نووية بالسر و ليست بالزر العلني.. لكن كل ذلك حين يرفع ابن مصر الحقيقي عبد الفتاح السيسي قلبه شعاراً- تحيا مصر!- فإننا نرد عليه أردنياً و بحرينياً، و إلى ما لا نستطيع أن ندعي النطق بإسمهم حياء، فنقول إننا نردد اليوم و في ذكرى استقلال الأردن ما كاملة كامل القصاب حين أعلن بلادنا كلها في بلاد الشام مملكة ديمقراطية واحدة بقيادة هاشمي نبيل في عام 1920 حين هتف في المؤتمر السوري الأول الممثل لكل أهل بلاد الشام، قائلاً في حضرة فيصل: ((الأمة تملي إرادتها و أنتم ملوكنا الشرعيين إلى يوم الدين)).

يكفينا أيها الإخوة في الأردن و في ذكرى استقلالنا أن نقول بأننا وحدنا وحدنا من برّ بقسم كامل القصاب (1920) في دمشق و أمسكنا على جمر إملاء الأمة لإرادتنا و وحدنا من تشرفنا بإبقاء ملوكنا هاشميين، شرعيين.

عاش الاستقلال في بلادنا، عشتم، و البحرين عربيةّ، و أنتم طيبون! عاشت مصر، مروحةً حضارية للأمة، عاشت الجزيرة العربية بمرؤات أبنائها الطيبين، عاشت العروبة يقيناً و حتماً و وحدةً برغم كيد الكائدين، و كل عام و أنتم بخير!

• ندوة بمناسبة عيد استقلال المملكة الأردنية الهاشمية

• جمعية المهند سين البحرينية

@الاصلاح نيوز