لماذا ألح على استخدام تعبير (يهود) طوال ماكتبت لقرابة نصف قرن مضى؟ لسبب أنني كعربي ومسلم، لا أجد مبررا لغويا ولا دينيا ولا أخلاقيا لوسم (الـ)يهود بأية سمة أخرى تحط من قدرهم أو تدينهم، مثل الصهيونية التي هي صفة تعيب اليهود ولا تشملهم كلهم، أو العبرانيين فهي ليست صفة قوم بل صفة لحركة قبائل تحركت جغرافيا في لحظة ما مكان إلى آخر، مثل كل حركات التاريخ العبثية أو المقصودة. لهذا أتمسك في انحيازي لهذا الاستخدام الموضوعي للمعاني.
اليوم، أكتب في هذا الموضوع وربما أتعمق فيه أكثر فيصير على هيئة حزمة أو ومضة من تفكير؛ أعني العلاقة بين اليهود وتفكيرهم ثم بيننا وبينهم.
وكتابتي في هذا الموضوع له أسباب ثلاثة. الأول: أن صديقا وأخا وزميلا، يتسم على مدار استعماله عقله وفي كافة المواقع وعلى كل بوابات التفكير ويحتفظ بمنهج عقلي نقدي يخلو من المجاملة والمحاباة، قد شجعني بإلحاح حنون أن أتمادى ما استطيع في البحبشة في موضوع اليهود وعلاقتهم بأنفسهم. وأضاف الصديق والزميل، معالي الدكتور صبري ربيحات، “لعل اليهود يستفيدون من هذه الطريقة التي تخرج عن منظور التناول العربي للفكرة اليهودية”. وأنا بطبع ثابت عندي أحب التلبية لصبري فيما يخوض فيه دوما من دهشة الجديد.
السبب الثاني: أحال إلي عبر واسطة (الواتس آب) العزيز والحبيب الكاتب الرقيق ناجح صوالحة فيديو صباحي لاقتحام مدينة (بديا) بزوامير مزعجة وصوت جنازير مهددة لتلك المدينة الوادعة (مهبط راسي)، ردا على النيل من ضابط يهودي على بوابات مستوطنة أريئيل المجاورة التي أنشئت اختلاسا وتجبرا بين (مردة) و (سلفيت) بلدات الجوار لـ (بديا). ولقد تعرفت على تلك البيوت (الصافنة) في الحياة في تلك الديار بحزن وانتظار طال أمده للخلاص، وأحزنني المشهد بضراوة!
السبب الثالث: تزامن خبران على شاشة الـ (سكاي نيوز) حيث اعتدت أن أتابع الدنيا بعد عبور الأمريكان بنا من أزمة الكورونا إلى أوكرانيا، وهجرت المتابعة لشاشة كل من برهن لا موضوعيته، وأكد تبعيته للتوجيهات الأمريكية، ولا استثني من ذلك فرنسا ٢٤، والجزيرة، وقناة المُرة (تحريف للحرة). كل ذلك تبين انضباطه على إيقاع الأمريكان خلال الأزمة الأوكرانية. كان الخبر الأول: أداء ٢٥٠ الف مصل التراويح ليلة القدر في باحات الأقصى؛ والخبر الثاني: حاخامات لا يهم عددهم من اليهود اجتمعوا في شيكاغو وأدانوا الاعتداءات غير الإنسانية على المصلين في الأقصى من قوات الاحتلال!
سأكتب ربما أكثر من مرة أشياء حول أبناء العمومة الجيران الذين انطلقت أصوات تهديدية
من بعض كتابهم بطريقة عريف الصف التقريعية لنا نحن الأردنيين، مفادها أن (تأدبوا، وإلا فإن الأردن هي فلسطين)! وبالقدر الذي لم يعجبني هذا الاستقواء وذاك الاستعلاء، بالقدر نفسه
أحزنني هذا الصلف اليهودي، الذين هم ولسنا نحن من لا يحتاجونه في التعامل مع الآخر.
إن منظومة البقاء والارتقاء والفناء تتساوى لدى هذا الكيان الغريب، الذي تشوب بنيته الكثير من العيوب وتتساوى فيه وعنه الاحتمالات الثلاثة بذات الدرجة وبذات المفاجأة وبذلت الاحتمال للتحقق.
لماذا أقول كل هذا؟ لأن اليهود بحاجة إلى من يعينهم على أنفسهم ويساعدهم على الاهتداء لفكرة جديدة عن حالهم وعن دورهم، إن أرادوا البقاء والارتقاء.
أبدا القول مشيرا إلى أن المسألة اليهودية، والمسألة الكردية، ومسألة المذبحة الأرمن كانت كلها مطروحة على سماط (سيفر) إحدى ضواحي باريس حيث أنشئ الكون من جديد عقب الحرب الكونية الأولى سنة ١٩٢٠. ولم يكن حظ وايزمان، الذي قبل لقاءه الأمير فيصل بن الحسين في القويرة قبل ذلك بسنتين، في تبني فكرته بنيل حكم ذاتي هزيل كالذي منحوه لاحقا للفلسطينيين من المؤتمر مضمونا ولا قريبا. وكانت المحنة الأرمنية تفوق في حدتها المسألة اليهودية، وما كان يلتمسه اليهود بعض حكم ذاتي لمناطق تواجدهم في فلسطين ليس أكثر.
هذه السردية ليس الهدف منها انتزاع ما حققه اليهود لأنفسهم من ارتقاء في طموحهم لنيل دولة مرعبة مطلقة الجنون والطموح. لكن، من ذلك الزمان وحتى زمان الاجتياح اليهودي باسم (الطغيان الإسرائيلي) بعجرفة وتفوق على كل المنطقة، ولسوء حظهم ان كلمة كل المنطقة تعني أمة العرب، من ذلك الزمان حتى زماننا الصعب الذي نعيش ثمة حقائق يخطئ في قراءتها قادة الفكر والتنظير اليهودي البائس، حين اعتمدوا العجرفة كبوابة لفرض القوة على حقائق التاريخ والجغرافيا.
ومن ضمن هذي الأخطاء: أولا، أن المذبحة اليهودية التي جرت من الطنطورة حتى كفر قاسم ومن الدوايمة حتى قبية ونحالين لنيل شرعية الاستقلال لم تكن كافية لضمان إنهاء الموضوع الفلسطيني. فالامريكي الكاوبوي المجنون في استباحته لكل شيء قد أجرى مذبحة كاملة للهنود الحمر السكان الوادعين في قارتهم وأقام كل مستوطناته في بلاد وافرة الإمكانات وأفرغها من كل سكانها. وهذا أول خطأ قاتل اقترفه الصهاينة بحق أنفسهم حين لم يفطنوا إلى حرق كل ما هو فلسطيني واكتفوا بتهجير الأكثرية وأبقوا على بعض أقلية.
لقد كانت جريمة الذبح الصهيونية للفلسطينيين جريمتين: الأولى، بحق الضحية (الفلسطيني) وهي لعنة ستظل تلاحقهم إلى يوم الدين. والثانية، بحق اليهود أنفسهم، لأنهم تركوا مبررا للفلسطينيين حين تقع حرب الاسترداد لوطنهم أن يجروا مذبحة بذات العنف لليهود، كما فعل اليهود انفسهم في حرب الاستقلال! ومن قال أن الاستقلال يجيز المذابح والاسترداد يحرّمها!؟
ثانيا، يهدد اليهود في كتاباتهم الصحفية الخفيفة والمارقة والعالقة في الجنون الأردن بإلغاء المعاهدة، والعودة إلى اعتبار الأردن هي فلسطين! وفي ذلك مداعبة تتسم بالخفة وبالاحتقار لدعاتها. ولنتناول هذي الفكرة بصراحة، يحتوي الأردن الآن سكانياً ضعف عدد اليهود في فلسطين. والكتلة الديموغرافية الحرجة التي تتحكم في المكان الأردني، هي جملة من قبائل عربية يمانية في الجنوب لم ينقطع تواصل سلالاتها بسبب الاحتلالات المتلاحقة لأنها كانت محافظة على هويتها بالنأي عن التداخل مع القادمين. وهؤلاء الأردنيون من الشمال إلى الجنوب هم عرب لهم قضية قومية دوما ملتهبة، فهم من بنوا سفارة الجزائر من حلي زوجاتهم، وهم من يطلق اسم “الشهيد” صدام حسين على مساجدهم وأماكن الافتخار لديهم لأنه قصف مدنكم في حرب التسعين، وهم الأردنيون أكثر الشعوب العربية مباهاة باقتناء السلاح، وهم من لبوا في حرب استقلالكم وحربنا في الدفاع عن وجودنا بفلسطين نداء المؤسس الحكيم عبدالله الأول حين اجتمع بقادة جنده (القليلون في العدد الكثيرون في الإيمان بالمعتقد) قبل حرب ١٩٤٨، وقال لهم: أيها الأبناء تذهبون إلى جهاد واجب الأداء، وأريدكم كما كنتم دوما أن ترفعوا راسي بكم وراس الأمة بجهادكم، أريدكم أن تعودوا إلينا بالقبة والقيامة والمسجد، أو أن تكونوا شهداء الدفاع عنها. ولقد قاتلكم هولاء الجند وانتم تعرفون النتيجة ووفوا بالوعد. ثم فرض عليهم القتال عام ١٩٦٧ بقيادة ليست أردنية وخسرنا القدس كلها لكن لم تكن الحرب أردنية، حتى جاءت منازلة الثأر في الكرامة، ولا داعي لتذكيركم بنتائجها؛ فقط أقول أو أدعي أن ما بيننا وبينكم ملف لم يغلق لدى كل أردني، وما أغلقه هو معاهدة السلام الذي أنتم من استفاد منه أكثر مما نحن استفدنا. ولو كنت في موقع النصيحة لأوصيتكم ألا تلعبوا هذه اللعبة معنا كأردنيين.
ثالثا، لست أدري لماذا تغريني دوما فكرة المقارنة بين دولة اليهود وأوكرانيا، وذلك له أسبابه الموضوعية، فدولة اليهود في فلسطين تعتمد بكل جبروتها وقوتها على الالتحاق والتبعية المطلقة مع أمريكا، وكذلك أوكرانيا. وتل أبيب يحكمها فئة من المتطرفين أنتجتهم كثافة الانتخاب في صناديق الكنيست من المستوطنين فحيدوا أبناء المدن الكبرى الذين هم عمليا من انشؤوا الكيان سنة ١٩٤٨، فمناحيم بيغن كان إرهابي مدن أنضجته التجربة ووقع مع مصر معاهدة الانسحاب الكامل مقابل السلام الحقيقي. وإسحق رابين ابن معهد خضوري وانتصر في كل الحروب علينا، لكنه هو من آمن بالسلام معنا وأنجزه وباشر مع الفلسطينيين تجربة الحل التاريخي، فقتله المستوطنون بقيادة نتنياهو، وحكما بلادكم وعبادكم طوال هذي السنوات المقلقة لكم أكثر مما هي متعبة لنا.
لقد تم اغتيال رابين بالتحريض الليكودي المتغطرس الأحمق، قبل أن تغتاله رصاصات الساحة في تل أبيب. وهذا انقسام يشبه الانقسام الذي فعله رئيس أوكرانيا اليهودي بتلبية كل شروط واشنطن، وكذلك اختطافه مع وزير دفاعه اليهودي لإرادة الأوكرانيين الحقيقية التي تعايشت مع الروس ولها أطيب الذكريات.
كذلك، فان القدر يبرهن أن ذات المصير قد يكون في النهاية من أقداركم، فالجغرافيا لها موسيقاها وقوانينها. وأنتم مثل أوكرانيا كلاكما في فم إمبراطورية خالدة. إن استباحة روسيا لأوكرانيا قد يجبرها الغرب على الانسحاب ذات يوم، لكن النتيجة أن أوكرانيا قد شهدت التشرد واللجوء والانكسار والخسائر الواضحة وكل ذلك بسبب غطرسة قيادة ذلك البلد. وبصراحة إن غطرسة قيادة الدولة اليهودية في فلسطين أكثر تطاولا ومنفخة ومكابرة واستعداء، وإلا فما الذي يدفعكم سوى الجنون أن تستبيحوا مسجدا مثل الأقصى؟!
في كل أدبياتكم تبكون دما من مذبحة هتلر والأفران. ونحن نحزن لهذا الحزن، لكن لماذا تصرون تأكيد نظرية ابن خلدون في العلاقة بين المهزوم والمنتصر (ومفادها أن كل الأمم المغلوبة تقلد الغالب)؟ لماذا تصرّون إعمال محرقة للفلسطينيين؟ تحرقون قلوبهم في دور العبادة! تحرقون قلوب أمهاتهم في الاحتفاظ بالجثث المتجمدة! والحل يسير: لماذا تتشبثون بالاحتلال!؟
لا بد لكم من مبادرة تنجيكم من أنفسكم. فالعرب كامة أخطر من إمبراطورية روسيا، وحين يفيق العربي فإنكم لخاسرون. انسوا دراساتكم وأبحاثكم.. انسوا قصص فرويد وادلر وصموئيل كاتس، وتذكروا عظيما من عظمائكم مثل نعوم تشومسكي ورابين واينشتاين الذي رفض أن يكون رئيسا لدولتكم حين عرضت عليه. تذكروا أنكم آخر دولة في الكون تحتلون روح شعب آخر، وهذا لن يدوم. العالم كله على أبواب منحنى جديد، فلا تجعلوا من إيران وداعش وكل عالم التطرف المغرق في التعصب خصومكم، وانتبهوا إلى اللحظة وقدموا أنفسكم كمجتمع ارتقاء بأنفسكم وبعدوكم وضحيتكم الذي سرقت أرضه خلسة وفي لحظة كانت صعبة عليه. تجنبوا الفناء بمواصلتكم نظرية الإفناء للخصم.. لقد تغيرت الدنيا أيها اليهود، والدنيا سريعة في دورانها، فابن الشهيد الخالد جهاد خليل الوزير هو أحد قادة البنك الدولي، وشخصيات فسلطينية مؤثرة وصلت للكونغرس والإدارة الأمريكية.
ثم يأتي بينيت بكل صلف وينعت محمود عباس وسلطته بالفساد! محمود عباس رجل عقيدة السلام وإقامة التوازن، لا هو بالفاسد ولا هو بالضعيف، وإن انقضاضكم على السلطة وإنهاءها لن يأتيكم بعميل لمشروعكم بديلا لها، بل إن البديل هو حماس، أو فكر أكثر تشددا منها، وأرجو ألا يفهم أنني ضد حماس، فخوذة حماسي يطلق صاروخا على تل أبيب فيغلقها تحظى باحترام عندي حد القداسة، لأن هولاء الحمقى اليهود يحتاجون أبو مازن، ونحن بحاجة لحماس حتى تذكرهم بحجمهم الطبيعي.
أدعو مفكرين يهود إلى الكف عن الغطرسة ونبذ المكابرة واستمرار التأجيل للحل التاريخي، فأنتم آخر كيان في الكون يبطش بأمة لا تقل مكانة عنكم، ولقد جربتم صوت ربع مليون مصل في الأقصى في ليلة القدر. عليكم بفتح باب المراجعة لما أنتم فيه من وحل الأوهام، وتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم.
باب الله لنا نحن العرب مسلمين ومسيحيين، فالمسيح عليه السلام صعد إلى خالقه منها، ومحمد صلوات الله عليه وسلامه قد راح لملاقاة ربه من قبتها. وليس لكم حق الاستيلاء عليها. ما بعد أوكرانيا العالم سيتغير، ولن يكون في ذلك أية مصلحة لكم. فاعتبروا..