قليل من الحياء يا سباع أكتوبر

ذات عيد.. من أعياد منتصف الثمانينات العاصفة…

كان حافظ الأسد(السلف)، (لـ بشار الخلف)، قد طرد للتو أبو عمار من قلب العروبة، وحامية الثورة والثوار، دمشق إلى تونس..

وإرتحل ذلك الختيار الثائر اللاجىء الحزين، عن بلاد كنا نسميها ولم نزل بلادنا، أعني بلاد الشام كلها، وراح إلى تونس.

تونس، خضراء القلب، والحُب

في تلك اللحظة من شهوات الحب الثوري إخوتنا شمال بلادنا، كان الإخراج الدمشقي الممسرح، بأعلى درجة المهانة…، لرمز الصورة الفلسطينية الجامعة، وقصد منه الأخ الأكبر إقصاء أبو عمَّار عن معركة (الدامور) والاستفراد بذلك الصوفي الطاهر أبو جهاد خليل الوزير يرحمه الله، الذي يتصدى بكل بسالة، لدبابات الرفاق السوريين، وبنادق الإخوة الفلسطينيين، الذين تمسكوا و(دمشقوا) البندقية الفلسطينية، فقرر أبو صالح وأبوموسى وغيرهما الاندياح في الحضن الدمشقي الدافئ!

كان.. يا ما كان

إذ ذاك كنت صحفياً في الغالية (الرأي)، وكنت أقضي مع أسرتي عطلة العيد (في مستراح أهلي في سال وبشرى)، إذ أن سال كانت مستقر عمي المهيب الشيخ محمد صهر آل العبيني الكرام، وبشرى كانت مقر أبناء عمومتي المصاهرين لـ (الجرادات).

لا أدري كم هم من يعرفون كيف تتسرب الشمس أول الصبح من سال إلى بشرى على هون، كأنها غيمة أو كأنها حبات لؤلؤ تتراقص مستأذنة الدخول الواحدة تلو الأخرى.

في مفترق طلّة سال، على ربوة بشرى الشرقية. كنا نناجي العيد، والفرح، والرضا، والأمان.

هل تغير شيء على سال وبشرى من ذلك الأزل الأردني؟!

أجل…

كل شي ظل هناك على حاله، إلا أهلنا الذين هم من جنوب سورية وتعدى رقمهم المليون ونصف المليون، ممن فاؤوا إلى شمالنا حيث جنت قرارات دمشق على درعا ذات خريف مرّ، فآواهم الأهل في الشمال وقاسموهم

(الثلاث)

الذين أمرنا الحبيب الرسول المعصوم المصطفى صلوات الله عليه وسلامه أن نتقاسمها مع أي عضو من أعضاء الامة، الذي ان أشتكى، (بكى) له الجسد كله، ونحن الأردنيون دوما كنا ذاك الجسد.

الشمس في شمالنا، تشرق كما كانت في الثمانينات ولا تغرب قبل أن تستحم في تلال المروءات الغربية.

الكلأ

والماء

والملح او النار.

أليس غريباً هذا التقاسم الأردني الشهم مع الأهل حين هجرهم الثوار من بلادهم وأخرجوهم منها…..

ليس غريباً عنهم هذا وليس غريبأً عنا ذاك.

(فالسلف )… (نبي صلوات الله عليه وسلامه).

و(الخلف).

عبد الله الذي دربنا بعسكريته الحقيقية وليس بعسكرتاريات الإذاعات، ( كيف تلاطم الكف كفه الشبرية)

من شقوق تلك الشمس الحميمة التي دفأتنا ذلك العيد عام 1984 طلت سيارة مرسيدس خضراء أنيقة ودخلت إلى حرم منزل ابن عمي في بشرى.

لم تخطئ عيني السيارة، لكن انشغل بالي كيف وصلت إلى بشرى أكثر من التفكير في سبب مجيئها.

كانت هي سيارة جمعة حماد له مني كل يوم الدعاء بالرحمة، ذلك الاستاذ البهي الذي علمني، كيف تلغى المسافة بين السلاح والقلم، وكان من فيها سائق المهمات الصعبة عطا الله (سائق الحاج الشخصي).

لم يضيع ذلك البدوي الطيب وقته بمجاملات العيد، بل مضى الى حيث مهمته، (عمي الحاج ينتظرك في البيت، ولازم انك تسافر تونس الليلة، بده اياك الحين..).

كان أمراً ملكياً سامياً ومباشراً ودون المرور بقنوات أحد لأن الاعلام كان للملك وليس بيد أحد غيره، ولم يقبل أن يكون له وكلاء أو وسطاء في الإعلام.

كان أمر سيدنا الحسين المغفور له بأذن من الله سبحانه، أن يتوجه المرحوم إبراهيم سكجها رئيس تحرير صحيفة الشعب اليومية انذاك، إلى تونس.

وأبو باسم كان بمثابة عمي في المهنة و والدي في التبجيل، والأستاذ محمود الشريف المثقف الذي يتفنن في اللغات والإعلام والشعر والسياسة، رئيس تحرير صحيفة الدستور وقتذاك.

ولأمر ما تنحى الحاج جمعة حماد صاحب الرأي عن الذهاب ودفع بي لهذا الأتون أن أمثل (الرأي)، هل كان ذلك رغبة وقراراً في مفاصل «الرأي» العليا الدفع بالجيل الجديد ليدخل عراك الكبار ويتعلم منهم؟!

كانت رحلة الصحافة الأردنية يوم العيد بأساطينها سكجها والشريف إلى تونس وحياء أضيف نفسي بعد أن أنزع صفة الاساطين لإجراء أكثر مقابلة حرجاً من حيث التوقيت مع «أبو عمار».

كانت رحلة الصحافة الأردنية رسالة وتحدياً، من صانع التحديات العربية في التاريخ المعاصر ( الحسين )، وكل إطارات الدولة تلتقط الإشارة وتنفذها.

كان هو الحسين جبار خواطر الأمة والناس، وأحسّ كل الأردنيين وقتها برغم تفاوت الاراء لديهم تجاه «أبو عمار»، بالسخط من التجبر وروح السلبطة التي يمقتها الأردني أنى كان مصدرها، حتى لو كانت دمشقية، نسيت أن أستأذن القارئ بأثقال كاهله بهذه التفاصيل.

فتفاصيل ذاكرتنا الوطنية تعج بالدرر، لكننا نستحي أو نكابر أو نداري الآخرين لا نقولها، ويتمادون علينا.

لقد لذت بهذه الذاكرة الثمانينية لأن ما يجري من صخب في كافة أرجاء الأردن، يحتاج إلى تهدئة وإلى تفكر، فالنصوص بحاجة إلى أعمال الفكر وأحداث تلك الهدأة المرجوة، والسكينة، ولسنا بحاجة كنا في أي وقت, كما الآن لمناشدة الضمائر بتخفيض الضجيج الذي أثقل الحناجر والصخب الذي أعتلى بأكثر من اللازم لنتذكر معاً ودوماً حجم الصعاب التي مرت بهذا الوطن حتى صمد.

كان الحسين هو من قرر أن يقول للسلطة في دمشق ( لا) بملء التحدي.

كذلك فأنه أراد ( الحسين يرحمه الله ) استخدام ذات السلاح الدمشقي فرد على طرد «أبو عمار» رداً اعلامياً، لان دمشق أرادت بالطرد أن يكون ضوضاءً صاخبة وتجريحاً أكثر مما هو قرار سيادي، وهو درس اردني كيف أن الإعلام أول المواجهة، وليس رد فعل للتنديد.

حين تحشّد الجيش العربي السوري على حدودنا في أكتوبر عام 1980، لنلغي قمة عمان الاقتصادية، لكن القمة تمت في مواقيتها فنحن لا نخذل العرب في مواعيدنا.

وحشدنا فوق ما حشدوا، وقال الحسين من فوق تلال عمراوة، وأم قيس، والشجرة ( أظن الإخوة في الشمال جربونا) وتمنى مبتهلاً إلى ربه سبحانه (الله لايعيدها).

كذلك كانت الرسالة الأردنية الهاشمية واضحة حاسمة، أن بلاد الشام جغرافيا وقرار ليسا في جيب أحد، ولا يقبلان الوصاية من أحد.

وإن رحّل «ابو عمار» من دمشق في ليل حالك، فعمان تفتح باب الشمس وتهدي الذين فاؤوا إليها نجم سهيل، كي يصلوا إلى بر الأمان.

كنت أجالس أبو عمار للمرة الأولى في حياتي، فمحررا الشؤون الفسطينية في «الرأي» لم أكن في عدادهم، كانت نجوم التغطية الفلسطينية انذاك الصحفية لميس اندوني، وكانت كلها يسار، والزميل المثابر عودة عودة وكان نقابياً أكثر منه يسارياً، وثالثهم كان عبد الله العتوم الذي توطدت علاقته (بالختيار) وكاد يحدث أزمة سياسية بين م. ت.ف والحكومة الأردنية، لأن أبو عمار بادر بتقديم العزاء بوفاة والدة العتوم قبل أن تفعل الحكومة ذلك، ووقع الحرج ووقع العتب.

كنت أجالس استاذي وأعمامي وكان برفقتنا الأخ أبو يوسف الوحيدي في تلك الرحلة من وجهاء مخيم البقعة، حيث مثل صورة حميدة في الولاء للدولة والاحتفاظ بحقه النضالي الفلسطيني الجميل.

ليت أحد الزملاء في جريدة الرأي الحبيبة ينبش تلك المقابلة، للاطلاع عليها لأن فيها من روائح ما يجري الان في احتفال موهوم ومزعوم للإخوة في «الشمال» هذه الأيام.

كل ما أردت قوله عن تلك التجربة المثيرة لي على المستوى السياسي والمهني وما فوجئت به من حقائق ومعلومات رهيبة من «أبو عمار» حول (عقلية الحكم الدمشقي) ولا أقول العقل الدمشقي، لأن عقلنا واحد وعقلياتنا شتى، وبت من كل هذا الصخب الذي يشبه الهجمة السياسية الشامية على أهل الأردن من جديد ان أعود الى الوراء 33 سنة، هي عمر مسيح (نا) عليه السلام، لنتمثل محبته من جديد لوطننا ولنذكر بالأسخريوطوي ومكره، لأنه لم يزل كرّة أخرى يسعى للصلب.

ثمة سؤال ماكر يشبه كل شيء مؤلم ؟! مابال اخوتنا في الشمال هاجوا مرة أخرى؟.. وعلى هيئة هجمة طاحنة لاتبقي ولا تذر علينا في الاردن؟!

لقد ظننت بمنتهى الصدق و الايمان بالله سبحانه، ان المواقف الكيماوية والغطرسة المزعومة لدى أخوتنا في الشمال قد انتهت والى غير رجعة، وفي أمثلتنا الشعبية ثمة أشياء يصعب تأويلها رغم قبح الملافظ، لكنني من باب الادب الاردني المحلى وولائنا الهاشمي مدرسة في الكتابة ننتهجها حتى اخر رمق، نسأل بعض الاخوة الساسة الهواة في دمشق (حملتم عبء وحدة سورية فخارت الركب ووقع المحذور وذلك يساوي في الاوزان 10 أطنان، شو جابكم… لعنا) حتى تحملوا خصومتنا واختلافكم معنا، ووزن حمل وحدتنا وقيادتنا لايتسع لها أي ميزان من موازينكم، لكننا سنرد عليكم بالحسن ونحاول ان نحسن النصح لكم، ليس بأخوية الأخ المجرب، بل بأبوية شعب أبي أوى بعضه في ربوعنا حين خذلتم جنباته، وبأبوية حاكم هاشمي عادل، تجرأتم عليه وليس لكم ضمانه سوى خلقه وسليل نسبه).

أعود لقصتكم مع الختيار «أبو عمار» الذي قال مبرراً أحد قادتكم كرّه الشام له، عبد الحليم خدام، والذي نزع نفسه منكم لاحقا، ورجمتموه بالخيانة، قال عبد الحليم خدام ذات حبور دمشقي عام 76 من غير سبب إن كرهنا لـ«أبو عمار» لن يتوقف أبداً، وأضاف حرفياً لأن «أبو عمار» سارق الكاميرا التاريخية من دمشق، والسؤال لكم اليوم هل صور الكاميرات في دمشق تسر بال أحد؟، أو كما يقول مثلكم الشعبي (صور كاميراتكم.. بتبكي الكافر).

استقبلنا «أبو عمار» عند الثالثة صباحا في ذلك العيد لأنه عاد من تهنئة رفاقه في أحد معسكرات المنافي في الجزائر، كفضل لأهل الكاميرات في دمشق، الآن ادرك كم كان مرهقاً ذلك اللقاء للمرحومين العم ابو باسم والاستاذ الشريف فقد أدركت الآن اعمارهما تقريبا.

استهل الحديث العم ابو باسم ابراهيم سكجها رحمه الله بكل مهنية..

أخ أبو عمار نحن نمثل الصحافة الاردنية، ونحن صحفيون أردنيون، وأكمل بصرامة.. ما جرى معكم في دمشق أثار حسرة وبلبلة، وجئنا لننقل الحقيقة وليس سواها للقارىء الاردني، وطرح سؤاله الاول لماذا الآن، وما هو السبب ؟

وأجاب «أبو عمار» واستفاض في الاجابة..

وكان سبب رجوعي إلى تلك المقابلة أن روائح من ذلك المناخ تسترجعها أنوفنا اليوم في رده على سؤال لي (بالمناسبة للتوثيق فقط كل ماذكرته منشور في صحيفة الرأي ذلك العام).

سألت «ابو عمار»، لما كل هذه الصناعة في الضوضاء، التي اصطنعها النظام السوري في اخراجك من جزء من بلادك ؟

مازلت أذكر إجابته بحسرة لم يخضعها لأية سياسة.

قال لي: أحمد أنت أردني؟

قلت له: نعم أنا أردني من محافظة نابلس.

وعاد يسأل: متزوج ولديك أولاد؟

قلت له: نعم.

قال لي وقد أطبق بكلتا يديه على رأسه حسرة وضعفا: اكتب (رسالة النظام السوري بإخراجي من الشام بهذه العنجهية، هي رسالة إهانة ليست لي فقط، بل لكل طفل من الشعب العربي الفلسطيني ستلده امه بعد مئتي سنة، وأراد أن يقول لكل الفلسطينيين أنه لا كبير عندي لكم) انتهى الاقتباس.

رحم الله ابو عمار فقد مات وهو يقبل أصابع أقدام أطفال شعبه تحت الاحتلال، ولكن أبو عمار أخطأ لأن رسالة الإهانة لم تكن للطفل الفلسطيني الذي لم يولد بعد، لكنها أصابت بعد جيل سوري فقط، الطفل السوري الذي قذفه الموج في شاطئ الموت على بحر ايجه مذكراً بجبروت فرعون وتابوت موسى.

وتمضي الأيام ويكرم الله الأردنيين بشفاء مليكهم من مرضته الأولى، وايابه سالماً غانماً في سبتمبر ( أيلول) عام 1992.

كان مدير إعلام الملك الصديق الأزلي الزميل محمد داودية، والحِبْ علي الفزاع كان مديرا لإعلام الأردن، وكان سمو المرحوم الامير زيد بن شاكر حفظ الله ذريته من أي سوء رئيساً للوزراء، ومعالي د. خالد الكركي رئيساً للديوان الملكي الهاشمي، حين ذهب سيدنا رحمه الله في أول زيارة عقب مرضته الأولى إلى جامعة اليرموك.

لم تزل تلك الزيارة وما خالطها من مشاعر وحوادث، من اهم محطات حياتي، خاصة أنها كانت آخر نشاط لي في الصحافة وبعدها تركت بلاط صاحبة الجلالة والتحقت ببلاط صاحب الجلالة.

لقد اندفع آلالاف من ناس إربد بكل عذوبة، جذلين مبتهلين والتفوا من حول طائرة الحسين وهي تهبط، مزيحين سور الجامعة بموجهم، فكانت عينا الحسين بروقا ورعوداً في الحب العارم، يومها عدنا بالطائرة رغبة من الحسين وهو يقودها، سمو أبو شاكر رئيساً للوزراء وخالد الكركي رئيسا للديوان، محمد داودية مديرا للاعلام، وكاتب هذه المقالة مديراً لتحرير الرأي.

طار بنا الحسين من فوق الفحيص معاتباً الحكومة، ليري أبو شاكر حجم انبعاث الدخان من مصنع الاسمنت، وشكا من أن إحدى بناته الأميرات أصيبت بأزمة صدرية جراء ذلك.

هبطنا إلى المقر السامي ودعانا سيدنا رحمه الله لفنجان من شاي في معيته، ابو شاكر وخالد ومحمد وأنا وانضم لاحقاً الأخ علي، راح الحديث المسائي الحميم صوب سورية.

يومها

كانت (لويدز) تفتش بضاعتنا قبل وصولها لميناء العقبة، والحصار يخنقنا، ودمشق الثورة كانت تستقبل 25 ألف جندي من جيشها العربي السوري الباسل حين عادوا للتو من حفر الباطن، بعد أن وضعهم شوارسكوف دروعاً بشرية قُدّام جيوشه الأميركية التي حررت الكويت ودكت عنق بغداد، ليتبين بعد ذلك أنه لا حسني مبارك فعل فعلته في تلك المواجهة لدوافع قومية، ولا رفيق السلاح حافظ الأسد كان دافعه قومياً أيضاً، لقد ارسلا بعض جيشهما مقابل مبالغ هائلة من الاموال كما فعل الأميركان تماماً.

كم كان دور الشقيق السوري والمصري الأسد ومبارك بائساً، وتأمرياً، وتدميرياً للأمة كلها، ذلك ليس أوانه بعد، ذلك اننا نعرف وهم يعرفون أننا نعرف، لكن لله سبحانه وتعالى اشاراته، ويكفي إشارات الخالق مع عباده لنعرف من هو الخائب ومن هو الصائب.

يومها

سألت جلالة المرحوم سيدنا أبو عبدالله يرحمه الله سؤالا و كانت الجلسة قد راحت بأتجاه تناول الهموم أكثر من التحليل (هل كنا في يوم غير مهمومين)؟

كان سؤالي مباشراً: جلالة سيدنا شو رأيك في حافظ الأسد ؟!

كان ذاك البعثي الطيار المعتق الصامت يُحيّرنا كجيل أردني عربي، تربينا على روح العرب، وثورة العرب.

قال رحمه الله بعد أن استمد نفسه من سيجارته، بكل شغف القلب والمتعلق بالعقل ذلك الهاشمي البهي، الذي ما مات فينا قط، لأنه ترك لنا ( الملك الصالح الذي يدعو له وندعو له) وعلّمنا (إن شاء الله علماً نافعاً) وصدقاته الجاريات تتحدث عنها ادغال افريقيا قبل أن تدرك عتبة كل (وصيد) في بيوتنا.

أسترجع صورته الآن وهو يمد بصره صوب النافذة متأملاً فيما بدا أنه يحاول استرداد كل تفصيلة لذلك الرجل لينصفه.

بأدبه الجم الذي لا يدارى ولا يوارى قال :

والله، يا جماعة هذا الرجل يُحيّرني !

لقد مر على هذه ( الشيبة) من ايزنهاور حتى بريجينيف، ومن تاتشر حتى جمال عبد الناصر، كلهم فهمتهم وفهمت عليهم.

وتمهل قليلاً…

إلا الرئيس حافظ الأسد فأنه حائر محير، وأكمل رحمه الله

حتى مرضه شفاه الله غريب وحيّر الأطباء، فعضلة قلبه على ما هي عليه تعادل عمر شخص عمره 93 سنة، لكن الأعمار بيد الله، هو شغال والحمد لله.

***

بين حيرة الحسين

واحتضان الحسين لـ «أبو عمار»

وعقده المجلس الوطني الفلسطيني في عمان سنة 84، لقد تحدى حافظ الأسد أي أحد يجرؤ على ايواء «أبو عمار» ومخاتيره (على حد تعبيره) بعد ان لفظته دمشق، وخرج الختيار الجريح الطريد بكل كبرياء ليقول :

سأستأجر سفينة في عرض البحر واعقد المجلس الوطني الفلسطيني فيها.

حينها مد الحسين كفه الوضاءة مرحباً بالقول (هذي عمان عاصمة العرب) ولقد كان ذاك الموقف الأردني الهاشمي القومي البهي الجسور درساً لكل انفصالي رديء، وعبرة لكل خوان رعديد.

بين حيرة الحسين وعروبة «أبو الحسين» التي ليس لها مثيل في انه جنبنا وجنب جوارنا قرارات التدخل في شؤونهم، رغم أنه بدا لنا جميعا في لحظة تاريخية فارقة، أنه حق من حقوقنا أن تتسع حدودنا لنأوي ما فاء إلينا لا أن نتوسع، وبدا لأكثر من مجموعة فينا ان واجب الأمة علينا يملي الدخول كما فعل الاشقاء في سورية حين دخلوا إلى لبنان لحمايتها من الفلسطينيين، فراحت كل لبنان وبقي غازي كنعان، أو كما دخلوا لحماية المقاومة الفلسطينية عام 76 من المسيحيين ولم تقم للمقاومة قائمة بعد ذلك.

لكن هذا الملك الهاشمي، قد تخطى روح أزمة وطننا في حدودنا الشمالية بنبله، وببسالته، وبسياسته. رغم أن خطورة إدارة أزمة الحدود الفاصلة بين اللا دولة في درعا والمليشيات التي حاصرت الغوطة، وقطعت المياه عن دمشق وأرجعت أهل دمشق إلى العصر المملوكي بأستخدام الحمامات الجماعية.

والأردن كان زناد جنوده حدوده والضغط للدخول أو السماح بالدخول كان له أثمان يعرف الاشقاء في سورية كم تبلغ حين فعلوا ما لم نفعل في حفر الباطن عام 1991.

ويأتي اليوم شباب دمشقي أو طرطوسي والوية رُفعّوا في ميدان الخطابات وساسة هواة ومفكرون متهورون يتحدثون عن حروب وهمية، دارت في رؤوسهم هم وحدهم، وما دامت الاسئلة قد فتحت شرعا من الاشقاء في الشمال فأننا نسأل اليوم بكل براءة إخوة الجغرافيا وإخوة الدم وبكل إخلاص، عن أي حرب في تشرين نتحدث؟

في صبيحة 6 اكتوبر قلنا أننا على أبواب الجليل، وإذا احنا في 24 اكتوبر فاجأنا العراقيون والأردنيون والمغاربة الذين اصطفوا دفاعاً عن دمشق لما أعلن الجنرال الأعور موشيه ديان نيته عقد مؤتمر صحفي على فنجان قهوة في قلبها، ومما يؤسف له أن درب دمشق قد فتحت، وأن من سدها في وجه اليهود ليس ببطولة الجيش العربي السوري البطل، لكن الذي سدّ، اللواء الثاني عشر العراقي الذي جاء من جبال كردستان زحفاً على جنازيره ببطولة خارقة، ومغاوير المغرب الأشاوس الذين أوجعوا تقدم اليهود، وشهداء اللواء أربعين من الجيش العربي المصطفوي وبقية ألويته، شهدائهم وجرحاهم، كانت تلك الصورة البهية لجلالة المغفور لها الملكة علياء، تنثر فوق جراحهم في المدينة الطبية الورود والدعوات ولو أن ساسة سورية وملحقيها الثقافيين والعسكريين وقناصلهم يقرأون كتاب تقرير لجنة أغرانات (همعدال) التقصير بالعبرية، لتواضعوا قليلاً بالحديث عن دورهم في اكتوبر عام 1973.

إن السبب المزري الذي نشره الإخوة المصريون عن سبب السرعة في استجابة الاشقاء في دمشق لوقف إطلاق النار في صبيحة 24 اكتوبر (خشية أن انتصر العرب أن يغير الجيش العراقي المنتصر وجه نظام دمشق) هذا أولاً.

أما ثانياً في أمر العروبة، فقد جرّبنا بعضنا بعضا، المرتهنون للأميركان هم نحن!

والحلفاء الذين لا قرار سياديا لهم هم نحن !

لكن رغم كل ذلك هم نحن من قال لأمريكا أطول (لا)هاشمية في التاريخ عام 1990، نريد حلاً عربياً لأزمة العراق – الكويت، وقبلنا بثمن ذلك اقتصادياً، ما زلنا نجرجر وجع ذلك الموقف اقتصاديا حتى اللحظة وسنظل.

أما ثوار أمة عربية واحدة، فأن الرسالة الخالدة قد ترجمت في حفر الباطن والنتيجة واضحة.

ثالثا، عام 1967

نحن ندري والأخوة المصريون يدرون والاسرائيليون يعرفون من الشيفرة الاردنية (عنقود العنب) من عجلون التي قصفت فوراً حتى أسراب الطائرات التي وعد بها الإخوة عرب الشمال من السابعة والنصف صبيحة 5 حزيران صباحاً حتى عودة الطائرات الإسرائيلية سالمة غانمة بعد تدمير كل مطارات مصر، أولئك الذين تركوا دم فراس العجلوني سؤالا يلاحق ضمائرهم و يقلق كل صاحب ضمير حي، لماذا لم تنضموا إلى سربي الطيارين الاردنيين، حيث كان هناك ثمة اتفاق على تدمير مدارج الطائرات الإسرائيلية قبل عودتها من هجومها المدمر للمطارات المصرية، والطائرات السورية لم تأت حتى هذه اللحظة لأنها مشغولة في استرداد دير الزور والبراميل من تلك الحظة !

رابعا، فليسامحنا الإخوة في الشمال، عن أية سورية نحن نتحدث، ثمة دبابات تركية اجتاحت أدلب، وثمة مغارة كردية بدعم امريكي مجهولة في مكان ما داخل القطر العربي السوري، المنتصر طبعا !

ثمة 12 قاعدة ونقطة عسكرية أمريكية، من (التنف) حتى نتف الشوارب، ثمة سلاح كيماوي قد سلم بالكامل وطيران اسرائيلي يحوم من فوق الرؤوس في القصر الجمهوري يعد عدد نغمات العود الذي يغني (سورية يا حبيبتي)، وليس بالمسموح رفع الصوت كثيرا.

وحزب الله، ميليشا له صفة الدولة، والروس ( اسم الله عليهم) نحن كأمة عربية ممتنون لهم بالنصر المبين.

السماح من الأشقاء في عرب الشمال أن نسيت أحداً، فالضيوف كثر والمعزب الدمشقي لم يرهقه الترحيب.

أمريكان، أكراد، وأتراك، وحزب الله.

وأما ايران ؟! فتلك قصة أخرى، على رأي الزميل باسم سكجها، إذ عوّدنا حين لا يريد الحديث عن شيء فيقول تلك قصة أخرى والمعنى في (بطن دمشق).

ويأتي بعد كل ذاك وغيره ما لم يئن أوانه، لانه لم يحضر بعد لا نساؤه ولا رجاله، ومن أين من سورية الشقيقة التي أضحت ألف سورية وليس سورية واحدة، كنا نتمنى أن يكون النصر حقيقياً لنشاطركم الاحتفال به.

أوليست (مزاميركم) التي تطن في الاذان معلنة بهجتكم بالنصر، تحتاج إلى قليل من الحياء ونقدكم للأردن العربي، أليس هو بحاجة الى قليل من الأدب.

وبعد، أن تطاول العرب المهزومون على العرب الصابرين الصامدين الكاظمين الغيظ يحتاج الى وقفة مراجعة وطنية شاملة، يحتاج إلى قليل من الوعي وكثير من التامل.

أزعم أن لا يجرؤ أحد فيجهلن علينا، لو لم يعط بعضنا إشارات خاطئة في الريق الحلو فقط، ويجب أن يكون الريق الحلو ليس عبر زيارة السفارات بل الريق الحلو وحسب، والحلو في قاموسنا الوطني هو الاردن ومليكه وكفى.


 

نشرت في : @عمون  | @جفرا نيوز