إن الحظوظ والأقدار تمنح المرء، الذي يعمل في الصحافة بخاصة، فرصاً لا تُضاهى! وأزعم، شاكراً لله سبحانه دوماً، أنني كنت من هذه الزمرة التي أكرمني الخالق سبحانه بأن جعلني شاهداً على حوادث كبرى في الفناء الوطني.
عام 1987 وعلى حين ثأر مكنوز، هبَّت فلسطين مرة واحدة تطلب الانتقام من محتليها، وسقطت نظرية (الصهاينة) الزاعمة أن الفلسطيني الكبير يموت، والذي لم يعِش عروبة فلسطين ينسى.
كان جيل (الأسرلة) ممن وُلد منهم بعد 1967 هو من عاش الاحتلال، وهو من ركّع الصهيوني بخزيه، حين كسر أيادي الأطفال في فلسطين تحت سمع العالم بأسره. لقد أدخل الفلسطيني للّغة العالمية ودون حاجة إلى ترجمة (الحجر) و (الانتفاضة)!
كان الحسين أول من يعرف أشواق الفلسطينيين ويحمل همّهم ويسعى لتجنيبهم المزيد من المعاناة. ولا أبالغ إن قلت إن إحدى معجزاته كانت رحمه الله (زرع الحب في قلب اللاجئ، ووهبه السكينة والأمان).
في البيان الثالث للانتفاضة، على ما أحب أن أسترجع من حوادث، قال شباب الانتفاضة قولتهم: لا يريدون وصاية من أحد. وظنّ الحسين رحمه الله، وهكذا خُيّل إلي ولا أقول أحب أن أتوهم أنني سمعتها منه، (فلنقدم لهولاء الشباب مبادرة تدعم روحهم).
أظن أن كلما ورد خارج هذا السبب لـ (فك الارتباط) يحتاج برأيي إلى تدقيق ومراجعة. لهذا وضع الحسين فكرة فك الارتباط في أدنى مربوط الدرجة الدستورية والقانونية، إذ جعله مجرد خطاب. لقد ترك وصيته ورسالته ذلك المليك الشهم حين ثبّت صورة جده (المغفور له الشريف حسين بن علي) فوق رأسه حين ألقى خطابه، لمن يريد أن يفهم. وبعدئذٍ استبدت مجموعة هنا لمصلحتها من الطرفين الأردني والفلسطيني، وذاك أمر آخر سأمر عليه فيما بعد بالملموس والبرهان.
على عادة الحسين في قراراته التاريخية أو الكبيرة، يأخذ نفسا طويلا ويشاور ويتوكل على الله ثم يمضي. ذلك فعله دوما، ما عدا انخراطه في مواجهة 1967، فإنه قد استسلم حينها لحسِّه العروبي دون حساب ومشى دربها من خلف عبد الناصر بصوفية مطلقة، أوصلته إلى تسليم مقاليد جيشه العربي لعبدالمنعم رياض، أحد أبطال مصر الخالدين.
في فك الارتباط، كانت هناك محاذير الوحدة الوطنية، والنسيج الأردني الذي ورثه عن جده ووسمه بالأسرة الأردنية الواحدة. ولأنه كان يدرك بعمق دور الإعلام وحساسيته، وخطورة انفلاته أو انضباطه، فقد اتخذ عدة قرارات أولية فيما يخص حالة الإعلام.
أولاً: لقد حمّل ملف الإعلام كله إلى رجل وطن يعرف وعورته، هو الدكتور هاني الخصاونة الذي كان لتوه قد عُين أمينا عاما في مجلس الوحدة الاقتصادية، بإجماع عربي وطُلب إليه الالتحاق بركب الأزمة، ليعين على فكفكتها.
ثانياً: قرر انتزاع الصحافة من أيد المؤمنين والمهنيين والموالين ووضعها بيد المقاتلين والمواجهين، دون حساب لخسارة أو كسب الشارع.
ثالثاً: وفي إحدى لحظات إلهامه، راح يدس قلبه في قاع المهنة يبحث عن جيل من الشباب، يجدد من خلاله روح مهنة الصحافة والإعلام. كان دوماً هو من ينتقي الصحفيين والكتاب ويتفنن في طريقة وضعهم في قلب العاصفة ولحظات الشدّ الكبرى. لذا، قرر أن يقوم بجولة ربما كانت الأولى في طريقتها وأسلوبها على الصحف الثلاث: الرأي والدستور والشعب، ويومها كنت مع القدر ليكون لي الشرف كله بأن يستمع، رحمه الله، إلى ما أرنو إليه مباشرة.
لم أعد أتذكر الآن أي الصحف كانت الأولى في تلك الجولة الملكية. ربما أنها (الشعب)، ومن بعدها (الرأي)، وآخر محطات جلالته كانت (الدستور). لقد بذل وزير الإعلام جهوداً ضارية قبل الزيارة لتكون على خير نتيجة، لكن الأمور كادت أن تفلت من بين يديه، فعلى الطرف الآخر كان قادة المرحلة السابقة (كامل ومحمود الشريف، ومحمد العمد، ومحمود الكايد) قد بلغ بهما الحنق إلى حد أن وصف المرحوم محمود الكايد معركة استردادهم للرأي بالـ (انتفاضة)؛ “اجعلوها انتفاضة في وجه الإدارة الجديدة.. كل يوم اعملوا قصة !”
كان التحشيد بين الطرفين قد أدرك (كسر العظم)، ووصل الحال، في لحظة مواجهة قبل تشريف الحسين إلى (الرأي)، بين عماد الحمود وراكان المجالي في اجتماع الرأي الذي يرأسة وزير الإعلام حالة من التصارخ لم نألفها قط في الرأي من قبل.
كان وضع راكان المجالي لا يُحسد عليه، وليس معه أي حليف استراتيجي، وكان تشريف الحسين يشكل مأزقاً صعبا له ولوزير الاعلام سواء بسواء. وربما أن الزميل راكان قد اختار أن يستقبل جلالته منفردا، وبحضور الدكتور المرحوم راضي الوقفي المدير العام الجديد، لكن شبيبة الرأي طلبت من الزميلة رباب منكو (كريمة المرحوم إبراهيم منكو وما يمثله من إرث في العلاقة مع الهاشميين) أن تقف على مدخل الرأي لحظة وصول الحسين، ولا أستطيع التأكيد الآن، إن طلب منها أحد الزملاء سؤال جلالة الملك لقاء أسرة الرأي كلها، أم هي اجتهدت بذلك؟
وقع الطلب، وسيدنا لبّى بالموافقة. واقترحت أنا شخصيا أن يكون أكثرنا هدوءاً ورزانة لينوب عنا في الحديث أمام جلالته ويعرض مطالبنا الزميل الأستاذ هاشم خريسات. ووافق الجميع، وحُددت نقاط الحديث، ودلفنا لأول لقاء كان عندي وسيبقى أهم لقاء في كل حياتي.
اصطحب جلالة سيدنا معه بالزيارة المرحوم سيادة الشريف زيد بن شاكر، وزيد الرفاعي، ومروان القاسم، وهاني الخصاونة أطال الله أعمارهم.
وأظن في تلك الليلة أن الحسين كان يحمل هموم الكون كلها، ولكنه يحتفظ في سرِّه بحلول مشكلات الدنيا بأسرها. ما أحلى تفاؤل ذلك الهاشمي الذي يجعل من الونس عقيدة ومن الأمل والحب سرّ حياته.
كان ما سوف يكون، وكنَّا لا نزيد عن قرابة العشرين من قيادة (الرأي): محررين ومندوبين فقط. وتحدث الحسين ثم سأل الحضور بالكلام، وكما الاتفاق كان بأن يقول هاشم خريسات كلمتنا.
هل الحدة التي أبداها هاشم خريسات كانت سراً من أسراره وباتفاق مع آخرين لم نعلمهم؟! أم أن التوتر والشدّ الذي ساد جو العلاقة مع الإدارة الجديدة هو المسؤول عن تلك الحدة؟ حدة لفتت انتباه الحسين وطلب من هاشم خريسات أن يجلس لكن هاشم رفض الجلوس وأكمل.
كالصواعق كالخوارق كالرعد كالبرق إنقض راكان المجالي على المشهد، وبصوت لا يخلو من صراخ، اتهم إدارة الرأي وكوادرها بتهم قاسية. وما كان إلا أن ردّ الزميل محمد ناجي عمايرة مؤازراً موقف هاشم وراداً تهم راكان.
بدا المشهد سرياليا بالكامل.. لقد لخصت ملامح الدكتور هاني الخصاونة كامل المشهد في تلك اللحظة، حين رفع الحسين (زاجراً آمراً الجميع: أن أوقفوا هذا الذي يجري)، وساد صمت في القاعة لثوانٍ بدت كأنها الدهر كله.
لقد كان مشهداً حزيناً حقاً.. كانت الزميلة رباب منكو تقف خلفي مباشرة، وعبد الوهاب زغيلات أمامي، وعماد الحمود بجواري، ووشوشتني رباب: أحمد، وقِّف وإحكي، ترى اذا ما لطفت الجو ستغلق الرأي الليلة. فأجبتها: شو بدي أحكي !؟ وألحَّ عبد الوهاب، وانضم إليه يوسف العبسي بضرورة أن أتحدث. ورَفعت رباب يدي ممسكة بها لأطلب الحديث. وأظن أن الدكتور هاني الخصاونة اعتقد أن كمينا آخر قد رُتِّب، فبادر قائلاً: خلص أخ أحمد انتهينا، ما بدنا حكي. وأجبته بعفوية، والحق أتذكر الآن أنني لم أعرف لماذا أجبته بما قلت: عفوا معاليك، أنا لا أنتظر إذنا من أحد في الكلام، طالما أنني في حضرة صاحب الحضرة !
تنبه الملك إلى ما قلت، وبدون أية مقدمات قال لي: تفضَّل يا إبني.. كيف لسعتني كلمته (يا إبني)! وكان يرحمه الله يقولها بطريقة يعنيها. قلت كلاما في حضرته لا أحب أن أنساه ما حييت، تضمّن اعتذارا عن الحدة بين الزملاء قبل قليل، ورحت أتحدث عن دور (الرأي) والصحافة بولاء صادق أدرَكَ أنني أعنيه، وعدت مع جلالته مذكراً بلقاء الجامعة الأردنية وطلبتها الغاضبين (عام 1976).
واستللت من الذاكرة قصة الشيب وخديعة الشباب به، ولقد سُرَّ جلالته بهذا الاسترجاع، ثم استعرضت تاريخ هذه البلاد مع الهاشميين من زنديّ جعفر حتى إرادة الحسين، وأنا أتكلم حتى وصل إلى روحي دفء ردة فعل سيادة أبو شاكر رحمه الله حين كرر على المسامع: “جميل”، وكررها.
بعدها اعتدل مزاج الحسين البهيّ، والتفت إلى راكان المجالي، وقال ممازحا: ما بتضّيفوا شاي بهالجريدة !؟ ونهض الدكتور راضي الوقفي ليأمر بإحضار ما طلبه الحسين.
حين تمر بخاطري تلك الليلة وأسترجعها على المدى، فإن جملة من دروس تنهمر على العقل بصورة واعظة.. إن فك الارتباط كان قرارا صعبا في حياتنا السياسية والاجتماعية وترك انعكاسات بنيوية في سيكولوجيا الأردني. ولذلك، كان يحتاج إلى تحضير وإعداد بغية التحصين الوطني، وما مبادرة الحسين بالموافقة على استرجاع الصحف لحاضنة الدولة وليس لسطوة الحكومات، إلا محاولة جادة منه لتخليصها من هوس مجاراة (الشارع) أولا. وثانيا، فتح باب عريض لتجديد الدماء في المهنة من تحت ناظريه مباشرة ودون وسيط سواء أكان ذاك الوسيط (أمنيا) أو (حكومياً).
كانت يد الحسين يرحمه الله دوما تعلو على أي يد في الدولة تطمح أن يكون صوتها الأبرز في الإعلام.
وآخر عظاته وحكمته رحمه الله من ذلك اللقاء هي روح التسامح، والتي كانت عنده إحدى مرتكزات فلسفة حُكمه.. كان يُنصت إلى أعماق الناس أبدا، لا يشعر بضجر، ولا يستولي عليه حبّ الرّدع، ولا يأخذه غضبه إلى أن يدير قلبه عن المسبب. كان حنونا حتى وهو في أعلى درجات غضبه، كان هو من يجسد الوصف القرآني الحكيم “والكاظمين الغيظ”. ما أمهره في كظم غضبه يرحمه الله.
في المقالة القادمة من هذه السلسلة عن المغفور له الراحل الحاضر فينا، سأمر على مجموعة حوادث منها: قصة علاج المرحوم إبراهيم شحدة، ووداع حافظ الأسد، وغضبته من سؤال في الجوازات العامة الأردنية بأن “تراجع المتابعة والتفتيش”، وقصة اللقاء في بسمان وفي قلب عاصفة نيسان.
نشرت في : @عمون