فوزي الملقي .. بين محمود الكايد وثروت المشاقبة

سمعت عن المرحوم فوزي الملقي أول مرة من العم الطيب، العميد الركن الوزير أبو كمال، صالح الشرع عند حواف السبعينيات، حين كنت في مرحلة التلقي عن طريق فن الاستماع، وكنت طالبا في الجامعة الأردنية أزوره مع نهاية كل أسبوع في مسكنه الونيس بضاحية الحسين.

ولمّا كان ملحقا عسكريا أو مرافقا لسمو الأمير (آنذاك) الحسين بن طلال في لندن إبان
حقبة ساند هيرست، قبل توليه المُلك. وكانوا ثلاثة تداخلت حياتهم وأقدارهم لاحقا في لندن (المرحوم سيدنا، والمرحوم دولة فوزي الملقي، والمرحوم العم أبو كمال). من يومها تعرفت بالاستماع لشخصية فوزي الملقي، ومضت السنون ولم يتقاطع وعيي مع سيرة ذلك الرجل المحترم بعد ذلك.

وعلى تخوم سنة ١٩٧٧، حطت رحالي في صحيفة الرأي لأتعلم من الكبار؛ الأساتذة الكبار: جمعة حماد، ورجا العيسى، ومحمود الكايد. وحين صرت من عصبة الرأي القادرة، وأصبحت عضوا في نادي القرار بــ (الرأي)، كان جمعة حماد في ناديه الثقافي اليومي يمدني بثقافة معرفية من رواد مكتبه، ومنهم: حسن التل، نصرت عبد البيطار، زياد أبو محفوظ، معالي النابه الأنيق طاهر حكمت، ودولة عبد الرووف الروابدة، محمود سعيد، مفلح اللوزي، وسيدة كاتبة جليلة كانت تزور من بيروت نادرا نسمع منها عن جنون التحات الثقافي في بيروت، الأديبة ليلى الأطرش. لقد كان منتدى جمعة حماد في الرأي متنوعا وثريا ويلتقي خلال النهار، ويمر على قصص بداوة أهل الشام عميقا حتى كتاب الأغاني، ويستقر الحديث عن مداولات ومماحكات المجلس الوطني الاستشاري.

أما مجلس (أبو العزم)، كما كان معروفا لدى محبيه، معبرا عن كنيته (محمود الكايد)، فلم يكن يحتفي بالحوارات النهارية حكما، إذ أن صاحبه مشغول بتسيير أمور الصحيفة أو تصريف واجبات خارجها. وكانت جمعته وطيب معشره وحلاوة حكيه في الليل. وكانت الحلقة التي يديرها، ليست حلقته بمعنى تصدره لها ولكن بمعنى أنه مفتاح مركزي فيها.

وكنّا، نحن أبناء الرأي الصاعدين، أكثر البشر استفادة من هذين التجمعين الهامين: ندوة جمعة حماد النهارية، ولقيا أبو العزم بأحبته ليلا. وأسال الله لهما طيب المقام في الجنة، فقد كانا (جمعة ومحمود) أكرم من عرفت في بذل الوعي ومنح الفرص للأتباع والأبناء دون منة. كان واسطة العقد وحلو ندوة محمود العذب بصمته الشيخ مروان الحمود، ويليه العماني المشاكس حد اللذة والحلاوة المرحوم فارس النابلسي، والصامت بوعي المرحوم أبو صخر صالح الجيرودي، وفي بعض مرات قد يشارك الحباب المرحوم سليمان عرار، وربما أن علي أبو الراغب أو صالح ارشيدات قد يشاركون في العشاء والمسامرة.

وعادة ما يكون ضيفا مرموقا على مزرعة محمود الكايد في منطقة أم البساتين، حيث أسماها الموهوب خفيف الظل الكاتب القومي خالد محادين (الكايدية) ولم تعرف بغير ذلك، المرحوم مصطفى القيسي الذي كان مديرا باهرا للمخابرات العامة حتى نايف حواتمة.. كلهم مرُّوا على الكايدية وما بينهما كثير.

بعد أن يغادر الضيوف جرت العادة أن نتحلق حول (المعلم) أبو عزمي، الذي كان معلمنا وسيبقى، فتبدأ سهرتنا المغلقة.. نحن نسأل و أبو عزمي يرخيه الليل فلا يظل ممسكا بخجله أو تحفظه، ويبوح لنا بأصدق الأحكام والمواقف. هل احتفظ أبو عزمي بثوريته على مدار عمره!؟ إن كانت الثورية بمعناها التقدمي والنقدي الوطني والحب للعروبة، والترفع عند المغنم، فأقول: نعم، كان ثوريا حتى بكى فراقي وبكيتُ دنو أجله كأطفال في غرفة مغلقة علينا في مستشفى الخالدي ذات وجع مضن للفراق.

ذات صيف فاتن من ثمانينيات القرن الفارط حدّ الاسترخاء النزق، كانت كل الدنيا قمرا وربيعا، أدار محمود الكايد بكل صرامة ومسؤولية دفة الحوار في ليل الكايدية إلى وعظة جليلة، قال وهو يرخي نفسا من سيجارته عميقا كان عبر (البلبلة) البنية التي اعتاد أن يداري سيجارته فيها ويباشر ملاعبتها حين يود أن يفضي بموقف.. سألني: (رح تكتب عني لما أمشي؟!) أجبته (العمر الطويل، يا سيدي شو هالحكي!). كنّا لم نزل بعيدين نظريا عن فكرة الموت والرحيل. قال أبو عزمي بتصميم: ستكتب عني ذات يوم (ومن الضروري أن أذكر أن تلك الجلسة كانت منصبة قبل مغادرة الضيوف على من هو رئيس الوزراء القادم. شهوة الأردنيين الأبدية في التوقع لهذا المنصب قبل أن يبدأوا شتمه ونقده).

وتدفق أبو عزمي في تلك الليلة ومن بين ما قاله: إن أنزه ثلاثة رؤساء وزراء تولوا المسؤولية في الأردن، والترتيب مقصود هم فوزي الملقي الذي كان تقدميا وديموقراطيا لم يتكرر، والثاني عبد الحميد شرف وكان عربيا بأصالة ومصلحا بعمق ونظيف اليد، والثالث أحمد عبيدات، يشبه الناس ويعرف حاجاتهم ولم يترفع عن الناس. وصمت أبو عزمي بحسرة برهة من ثوان أو أكثر واحترمنا صمته وصار (المعلم) لحظتها حكما وراوية للتاريخ وأردف بترو: هل تعلم عن أسوء ثلاثة تحكموا في العباد وفسدوا وظلموا وجاسوا خلال الديار؟! ذكرهم رحمه الله وقال: حين تكتب أكتب عن (الملاح)، وإياك أن تذكر (العاطلين) فهم يعرفون أنفسهم.

قبل مدة تسلمت كتاب الدكتورة الجليلة والمرموقة والباحثة المبهرة الدكتورة ثروت المشاقبة بعنوان (فوزي الملقي وحياته ونشاطه السياسي في الأردن)، ولقد تسلمت الكتاب بناء على التماس مني
من أخي الدكتور هاني فوزي الملقي، لأنني تذكرت قول محمود الكايد، وقررت الكتابة وفاء لروحه وتلبية لطلبه. وقد زادت رغبتي في الكتابة عن الكتاب روح الكاتبة واحترامي لها. فبعد خيرية قاسمية، لم أقرأ في بلادنا (بلاد الشام) مؤرخة إشراقية وسلسة ودقيقة كما ثروت.

وقصتي مع دولة الأخ هاني قصة أحبها كثيرا، فهي على نحو ما أخف الصور وطأة في العلاقة التي تربط أبناء الذوات في عمّان بنا، نحن المصنفون أننا فلاحون وأبناء ريف أخذوا فرصتهم بالخطأ، فهولاء قوم في عمان تعرفت عليهم أثناء عملي إمّا في بلاط (صاحبة الجلالة في الرأي)، وإما في بلاط صاحب الجلالة بمعيّة الامير الحسن على، مدار العقد الأصعب (التسعينيات)، وإما في بلاط سمو ولي عهد البحرين، حيث عملت ما طاف عن العشر سنين.

فتية عمّان الذين أصبح أغلبهم رؤساء وزارات ليس بحكم الأهلية فقط، رغم أنهم مؤهلون، فقد كان فوزي الملقي يداعب طفله الوحيد هاني ذات يوم ويدعو ربه (اللهم اجعلك من أبناء الحظ.. وأسال الله ألا تكون من أبناء العقل). وبكت الوالدة حزنا من هذا الدعاء. لكن النبيل أبو هاني قال لها: أيتها الطيبة، إن أبناء العقل دوما في خدمة أبناء الحظ.
كل الشباب الذين مرّوا، أصدقاء أو زملاء أو أحبة، كانت عمّانيتهم من يحكم خياراتهم. والحمد لله دوما أن كفانا ربنا حاجتنا لأهل الحظ. ودولة الأخ هاني في قلب القلب ممن أوجع قلب حبي له في الذي مارسه علي من حب أخوي فاض عن قدرتي الابتعاد عنه في البحرين، فأرجعني إلى الوطن، وقاعدني مبكرا كي استمتع بالأحفاد. وأنا ممتن له بذلك.

باختصار، هاني الوحيد من دونهم أجمعين من لا أقوى على صد حبه، لأن فيه براءة رغم كل التعقيدات التي أكسبه إياها حظه.

سأكتب عن كتاب المرحوم فوزي الملقي اليوم تلبية لأمر معلم الحوزة الثانية في حياتي (أبو العزم)، لأنني ما زلت أتعلم من حكمه رحمه الله. وثانيا: لأن ثروت المشاقبة جسدت ثروة وطنية باذخة في إيجاد تاريخ حنون محايد لرجالات وطننا. وثالثا: حباً لهاني، فلقد تزاملنا عقدين متصلين، لم أر منه ما يعيب وطنيته. أما أخوتنا، وما تحويه فهي ملك لنا.

أبدا من بداية المعرفة عندي للفكر الهاشمي، حين أذن سمو الأمير الحسن أن أكون من ضمن
تلاميذه في مرحلة الثمانينيات، فرحت أبحث في مراجع المدرسة الهاشمية المبروكة، وتنقلت
من جورج أنطونيوس حتى علي الوردي ومن عدنان البخيت (موتمر بحوث بلاد الشام والوثائق الهاشمية) حتى يوسف غوانمة، ومن كيركبرايد وصولا لأمين الريحاني، ومن الأعمال الكاملة الجليلة للملك المؤسس رحمه الله حتى “التكملة”، ومن سعد أبو دية الباحث الفذ حتى أنيس الصايغ
وغيرها، فلا أريد أن أجري استعراضا لكتاب الفكر الهاشمي وخصومه! لكن ثمة كتاب استوقفني كثيرا وظل أحد مراجع إطاري الدلالي، إنه كتاب الحكومة العربية في دمشق لمؤلفته خيرية قاسمية. كان بحثا عميقا ومذهلا، ولقد علمتني تلك السيدة العظيمة أسرارا غاية في الحساسية والخطورة
عن علاقة الحركة الوطنية في بلاد الشام وبعدها الوحدوي الذي لم ينضج، وكيف أدى ذلك إلى زوال المملكة الهاشمية الأولى خارج الحجاز.
من بعد خيرية، قرأت لسحر خليفة رواية “لم نعد جواري لكم”، وقرأت لهادية الدجاني كتابا عن القاضي الفاضل، ومن بعدهم فلم أعثر على نص لامرأة يشفي غليلي بالمعرفة.

اليوم، لا أريد أن أقدم عرضا لإبداع ثروت في كتابها عن دولة المبجل فوزي الملقي، فلقد سبقني إلى ذلك علماء وأساتذة بالغي الشهرة وذاع عنهم الصيت والمعرفة في ندوة خصصت لذلك. لكني أود القول اليوم بعد أن عرّفني الكتاب بالتفصيل عن فوزي الملقي، رحم الله محمود الكايد فلقد كان عالما بالرجال ومنازلهم.

أما كاتبة الكتاب، ففي ظني أن من يتعاطى مع التاريخ يكون مثل سائق واسطة نقل، يأخذ قراءه وأتباعه في رحلة متأنية أو متعجلة أو مسلوقة أو مصحوبة بقلق السائق خشية منه انتهاء الوقود. وثروت اصطحبت قراءها في رحلة قطار قادته بمهارة لكن بصبر وطول نفس من عقربا حتى العقبة. ووقفت في محطات حيوية لتضيء لرفقاء دربها من القراء التأمل والتمتع بجزء هام من تاريخ الأردن الحديث، وعلى رجالات مرحلة تداخل فيها كل شيء بأي شيء.

أبدعت الدكتورة المشاقبة في التزامها بحياد أكاديمي يجلله الشرف والنبل حين كانت تصطدم عجلات قطارها بشوائب الاختلاف بين الرجال، وأبدت حياء ينسجم وتربيتها ومن أين جاءت ومن علمها حين تستعرض انقلاب الصحاب على الصحاب. كان مسها للقضايا الحساسة في خمسينيات ما مضى مسا كله رقة وبحساب، لكنها أبدا ظلت مخلصة للحقيقة وقدمت فوزي الملقي الشخصية الوطنية عبر كفاح مرير مع المراجع وكثرتها والمصادر وتعقيدها، قدمته بموضوعية وبأناة تشبه نهايات الصلاة. حين تنتهي من الكتاب تخلص إلى نتيجة واحدة: كيف نجا الأردن
وكيف فاز بالملكية الهاشمية الوادعة، لأن رجالا مثل فوزي الملقي كانوا وقود الحب في حلقات حكم الحسين الأولى. إن الكتاب يعلمنا درسا في التاريخ مفاده أن الحُكم أي حكم، والحاكم أي حاكمٍ برجالاته ومن يتحلقون من حوله.

كتاب فوزي الملقي ملاحته في ثلاث: المُؤلفة وطنية بنت بلد تشبهنا وقلمها مداده من ملامحنا
ولها الدعاء بالتقدم أكثر وأن تجد من فتية عمان من يقرأ، علها أن تنال ما تستحق. والملاحة الثانية: فوزي الملقي بذاته، أحد ملامح الطيب الأردني والوطنية الصادقة الذي تصدى لجبروت الإنجليز وكان مع الوحدة العربية وأغلق السجون بعفوه العام وفتح الباب لحرية الصحافة ومهّد الطريق لخمسة رؤساء وزارات من بعده من حكومته. أما المليح الأعظم، ففي كل ومضة أو رجعة أو استحضار لتاريخ هذا الحمى الهاشمي، فإنك تطلب من الله الرحمة لروحه فقد كان يعرف قدر الرجال الرجال، ويمنحهم وقتهم، ويغدق عليهم بالفرص. كان الحسين مدرسة في علم الرجال، وهذا ما جعل من الأردن يتقدم تقدما عكسيا مع إمكاناته، فرغم الموارد المحدودة في بلد مدجج بالهجرة القسرية استطاع أن يصنع من رجاله جبال عطاء وأنهر دفق وإنجاز.

القائد هو الربان وكتاب ثروت المشاقبة يلزمك قراءة الفاتحة على روح الحسين لحظة الانتهاء من الكتاب.

 

 

 


 

نشرت في : @عمون