أول الضوء ميشيل

أبكي أخوتك المدهشة، وأحنّ دوما لأبوتك الدافئة أيها المسيحي الجليل. ما ظننت لوهلة أنني أرثيك قط، فقد كنت أبدا تعني لي الحماية والرعاية والدوام.

وسأبدأ معك هذا اليوم من بعيد أيها القديس الطيب.. من بلاطات القدس، حيث ولدت وصرت وعيا وحدويا تمنح الناس السلام، ومتّ بسلام وحرمتني الكورونا من مد القلب على مثواك بالسلام.

ميشيل حمارنة يرحمه الله وطن في حكاية أكتب بعض حروفها اليوم. ميشيل سيرة وجملة من سور فاتنة وبهية، تمثل الروح الأردنية الخلاقة، فهي النقيض لكل رداوات المرحلة من قبح ومن سيئات. فسيرة ميشيل حمارنة هي رحلة الطيب المسيحي في بلادنا، والتشبث برفض الدمج بين (الدموية الصليبية) التي استباحت حرمة مسيحيي دمشق قبل جَرْوَحَة روح الأقصى والقبة وسماحة مسحيي بلاد العرب.

كان أول الفصل كفاح المسيحيين العرب ضد الحملات الصليبية. فتساوت حصتهم في العروبة مع حصة صلاح الدين والقاضي الفاضل (مهندسو النصر) في استرداد القدس.

ثمة قصص لثلاثة مسيحيين عرب بروحهم الفواحة: واحد غربي النهر هو حنا بنورة، ويعقوب عويس، وميشيل حمارنة شرقي النهر الخالد بالوحدة والتوحيد. حنا بنورة نائب العتبات المسيحية المقدسة في فلسطين ولد عام ١٩٠٠ وعاصر الترك والإنجليز واستقر به المقام أردنيا وممثلا لناسه في مجلس النواب لعدة دورات.

وذات يوم، خطط نفر من أهل السوء حيلة تحرجه لأنهم ضاقوا بمقامه ذرعا في التمثيل البرلماني واعتبروه من الحرس القديم، ولازم يخلي الساحة للجيل الجديد. لكن، أسلوبهم كان كله دناءة وتآمر، فاتفقوا مع إحدى بائعات الهوى في حينه أن تُعلي صوتها في وجه ذلك المحترم، الذي ظل يلبس الطربوش توقيرا واحتراما لغطاء الرأس، وتطالبه بمبلغ من الفلوس ثمنا لما يشين الرجال. وقد وقع ذلك والنائب يعمل على حل مشكلات ناخبيه أمام إحدى المحاكم، وما كان من أحد مرافقيه إلا أن اِستلّ سلاحه ليقتل تلك المتطفلة! لكن حنا بنورة أمره بأن يغمد سلاحه، وتوجه نحو تلك السيدة التي تصرخ في وجهه، وقال لها بأبوية: ما عليك يا بنتي، تعرفين مكتبي؟ مري بعد ساعة وستحصلين على مبتغاك.

وفتر حماس تلك السيدة وذهبت إلى مكتبه وباشرت لحظة أن جلست بين يديه الاعتذار. ونقدَها في ذلك الوقت مبلغا يساعدها على هجر أفعالها السيئة. فقالت له: اعتذر منك يا سيدي. أغواني فلان وفلان بخمسة دنانير (وكان مبلغا بقيمة هامة حينها) لأفعل ما فعلت.
تبسم حنا، وقال: يا بنتي أستري على الناس، لا داعي لذكر أسمائهم. وسأبحث لك عن عمل شريف يقيم أودك، ولا تحتاجين غير الله. وهكذا كان.

كان أحد أتباعه قد قرر الانتقام من المحرضين، لكن حنا بنورة قال له: يا ولدي إنت غاضب من هوءلاء؟ اجاب بانفعال: كثيرا سيدي. أضاف حنا يرحمه الله: إذن، لا تكن مثلهم. لا تدع الردي يستدرجك لتصير مثله.. سامِح.. علمنا الرب أن التسامح صفة خالقنا المقدسة.

وتلك صورة أولى. أما الصورة الثانية، فبعد أن أقدم وصفي التل على استيعاب قادة المعارضة في أطر الدولة وإعادة تأهيل تصورهم للعلاقة مع الدولة، كان يعقوب عويس البعثي الشهم أبو خالد قد عاد للحكومة وأضحى مديرا عاما للسياحة والآثار، ذلك منصب في الزمن الأردني الجميل قد يعدل منصب مدير المخابرات أو مدير الأمن العام لخطورة المهام الملقاة على عاتقه.

في ليلة عمانية ذات خميس، وكان الخميس الأردني أيامها يخلو من سوءات وعورات وعيوب الانتظار لما سيحمل الرذاذ المشؤوم من أغاني الـ (هلا بالخميس). فقد كان الخميس العمّاني انذّاك ولائم بسيطة تعقد من حولها ندوات فكر وتقليب مواجع الأمة من النخبة الحقيقية.

كان يعقوب عويس رحمه الله يتناول طعام العشاء في منزل صديق له بجبل عمّان حين تلقى هاتفا من شرطة جرش تخبره أن موظفيْن من دائرتك (شاب وشابة) قد تعرضا لحادث مروري مؤسف جدا في قلعة الربض، وهما الآن في المركز الصحي والشاب في غيبوبة. طلب يعقوب عويس من الضابط المسؤول عدم إخبار أي من ذويهما، وترك العشاء واستدعى سكرتيره وريس الديوان في الدائرة وكتب كتاب تكليف للشابين لمراقبة سرقة الآثار في القلعة، وأن تكون مهمتهما ليلية وذلك لتفشي ظاهرة سرقة الآثار يوم الخميس.

وفي تلك الأيام، كانت الدوائر الرسمية لا تُعلم الأهل حين يقع شيء للموظف، بل يتم الاتصال بدائرته أولا، وذلك زمان كان محظورا على الموظفين فيه استخدام أسماء عشائرهم، ويكتفى بالثلاثي من الاسم. كان الشاب مسلما من الضفة الشرقية، والفتاة مسيحية من الضفة الغربية وبينهما قصة حب، وذهبا في مشوار غرام ووقع الحادث معهما.

أمر يعقوب عويس بطباعة نسختين وطلب من رئيس الديوان أن يذهب ويضع نسخة في جيب الشاب والثانية في حقيبة الفتاة. وبعدها، قام بزيارتهما وطلب من أهل للطرفين موافاته هناك. بعد حين شفي الشاب والفتاة وغادرا لأمريكا وتزوجا، والآن هما إحدى مفاخر الأردنيين والفلسطينين في بوسطن.

السيرة الخاتمة هي سيرة ميشيل وتلك قيم لن تبيد أبدا. ذات صبح عماني من أيام الغليان في صراع البقاء، وهو ليس مثل ما يقع أيامنا هذه من معارك دونكيشوتية من فوق غيوم الرذاذ، وقعت أبهى قصة للنبل رأيتها على مرمى القاب وبطلها كان ميشيل حمارنة وأطرافها (المرحوم سيادة الشريف زيد بن شاكر رئيس الوزراء، وعبد الرءووف الروابدة نائب الرئيس اليقظ، وخالد الكركي نائب الرئيس المؤمن بسلطة الثقافة، وعبدالله كنعان نائب ميشيل حمارنة).

كان يوما أردنيا متداخلا ومركبا، إذ انعقد من تحت رعاية الكبير سيدنا الحسين رحمه الله مؤتمر اقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على حواف منتصف تسعينيات القرن الماضي في قصر الثقافة بعمّان، وكان آخر لقاء يحضره إسحق رابين في حياته، فبعدها بيومين قُتل الرجل من سفهاء وحمقى اليمين اليهودي المتطرف، وشارك أيضا عمرو موسى، وحمد بن جاسم، وشمعون بيريز وآخرين كثر.

عند المساء، كنا ثلاثتنا معا (ناصر جودة والمرحوم إحسان رمزي وأنا من المنظمين للقاء سيدنا في خيمة الصحفيين مع نخبة من الصحافة العربية والدولية والمحلية)، وكان سيدي حسن يترأس الجلسة الختامية. كان سيدنا رحمه الله قد أنهى لقاءه الصحفي وغادر، وإذا بنداءات إنهالت عبر جهاز (البيجر) بسرعة التوجه لمدخل قصر الثقافة.

وحتى تلك اللحظة لم أكن قد علمت بوجود صالة استقبال فاخرة على يمين مدخل القصر، كان سيدي حسن حفظه الله قد توجه ومعه ميشيل حمارنة وأحمد منكو إلى تلك القاعة، وسألني باقتضاب وحسم: (مين اللي كتب برقية الشكر لسيدنا؟) كان غاضبا وحزينا أيضا.
أجبته: (والله يا سيدي ما بعرف، كنت مشغول بترتيبات المؤتمر الصحفي لسيدنا من ضمن الفريق المكلف). صمت سيدي حسن، ومضى صوب تلك الغرفة التي كانت في تلك اللحظة مثل الكهف، كان فيها المرحوم أبو شاكر وعبدالرؤوف وخالد الكركي، كان غضبا في العيون يشبه الغليان حين

سأل سيدي حسن أبو شاكر: شو الموضوع؟! ردّ أبو شاكر: سيدي، اللي صار خطير، ولا يجوز أن يُخاطب سيدنا بهذه اللغة. وأنا أوقفت البرقية على الهواء بعد إذن سموك ( كان البث مباشر لحظتها).

وأكمل موجة الاحتجاج النائبان المحترمان (الروابدة والكركي). توجه سيدي حسن بكليّته إلى ميشيل حمارنة، وسأله: مين الذي كتب برقية سيدنا يا أبو عمر؟! بكل هدوء القديسين والأطهار، رد ميشيل: العفو منك سمو الأمير، والله أنا من كتبها، أحمد كان مشغول في المؤتمر الصحفي. وإذا ورد خطأ ديني فيها، فأنا أتحمل المسوولية، وأقدم استقالتي الآن. لأمر ما، ما زلت أجهله لغاية الآن، هدأت النفوس بعد إجابة ميشيل مدير المكتب. ورفع سيدي حسن التلفون وكلم سيدنا، واعتذر منه ومازحه وأخبره أن ميشيل هو كاتب البرقية ويعتذر من سيدنا، وكلم سيدنا ميشيل، واصطحبه سيدي حسن بأمر من جلالة الملك إلى بيت سيدنا، وتناولوا ثلاثتهم الشاي معا.

السؤال: أين كان الخطأ في برقية الشكر باسم الأمير الحسن والمؤتمر؟! استُهلت البرقية بالنص التالي: (السلام على من اتبع الهدى). وفُسّرت حينها أنها مخاطبة للكفار من النبي صلى الله عليه وسلامه.

في اليوم التالي، كنّا نجالس سمو الأمير الحسن في مكتب الغالي ميشيل حمارنة وكان ذلك يوم جمعة قبل أن يتوجه الأمير الحسن للصلاة في المسجد الحسيني. المرحوم محمد السقاف والمرحوم ميشيل حمارنة وكاتب هذه السطور، وعلى حين فجأة وعلى طريقة معالي محمد السقاف في وضع الأمور بين يدي الحسن بصراحة ومباشرة، وقف وقال: والله العظيم يا سيدي، ميشيل حمارنة لم ير البرقية ولم يعرف بها لكنه لم يعرف بها وعبدالله كنعان من كتبها، وهو من كتبها، لازم أحكيلك الحقيقة.

ذُهل سيدي حسن. وقال لميشيل: ليش هيك عملت يا بوعمر، الله يسامحك! أجاب بطريقته الصوفية: والله يا سيدي إنت شفت الجو شو مشحون في الحكومة كان، ومن واجبي أن أحمي موظف أنا مسؤول عنه، وأتحمل تبعات الموقف.

تحول سيدي حسن إلى الاتصال بسيدنا وأخبره بما حصل من ميشيل. كان تعليق سيدنا الله يرحمه: ميشيل قدوة في الإدارة الله يكثر من أمثاله.

كيف أقدم بكل شجاعة وجسارة على هذا الموقف! كان هذا هو ما اخترت أن يكون مفتاح شخصية ميشيل حمارنة، وفي جعبتي وقلبي ما يزيد عن الخمسين قصة مع زملاء وزميلات وأنا منهم في مثل هذا النبل لميشيل حمارنة أكثرها وقعا ونحن نتجه من القدس إلى تل أبيب لتعزية أرملة إسحق رابين.

كانت دموعه تسح على خديه مثل طفل فقد أبويه، وهو يسترجع الذكريات في القدس، وكان أخبرنا وأكثرنا عمقا وحبا للقدس.

حين وافيته بكرم أخاذ أحاطني به أخي الكبير عبدالله كنعان الذي اصطحبني لزيارته على حواف انتهاء العمر رحمه الله جلست بجواره ومد لي يده ورمقتي بنظرة حرى عميقة. قال لي: أحمد.. بتعرف قديش بحبك. قبّلت يده، ولم تسعفني أية شهامة في إخفاء دمعي عنه ولا عن ديما الغالية ولا أبو علاء الوفي. عشنا معا حياة كاملة، أسرارها أغلبها ستذهب معي للقبر حين التحق به.

ميشيل كان يعرف أكثر من أي أردني في ردح طويل من زمن أردني صعب، وكان أقل أردني يقول.

ميشيل يخلو قلبه من أية بداوة سياسية بمعنى التعصب لغير الوطن، وهو الذي بدأ حياته شيوعيا، وانتهى به المقام مثل كل الأردنيين هاشمي الولاء بصوفية وعمق.

ميشيل كان الصاحب الذي لا يخذل، ويؤجل أي قرار فيه أذى لأي أردني، ويسرّع في التوقيع على قرارات الخير، وهو لم يحجب دعما ولا مساندة لأي صاحب حاجة.

وميشيل كان المقتر حد عتبنا أجمعين في المال العام، ولم أسجل عليه شائنة قولا ولا حركة ولا فعلا على مدار عشرات السنين التي آويت فيها لمحرابه صديقا منذ ثمانينيات القرن الفارط وشرف التزامل في العمل واستمرار الأخوة حتى فاضت روحه لباريها.

ميشيل حمارنة يرحمه الله كان نموذجا لم أر له مثيلا في حياتي المهنية.

أختم مداخلتي عن روحه الطاهرة بالقول كانت ديما كريمته الغالية تعمل في التلفزيون ذات فترة من العمر، ووالدها كان بنفوذ مدير مكتب سمو ولي العهد. بحياتها ديما ما أشعرت أحدا من الزملاء أن أباها ذو موقع أو سطوة أو نفوذ.

افتقدك الوطن يا أيها الحبيب. وأبكيك بالدعاء لك والترحم على روحك، فقد كنت وطنا في رجل، وكنت رحمة وبسمة، فسلام عليك، والرحمة لروحك الأبية.

 


 

نشرت في : @عمون  | @صحفي