ذات يوم ثمانيناتي، قدمت إلى عمّان سيدة دمشقية من حي (القنوات)، هي المرحومة “أم نديم النجار”، لزيارة أخيها التاجر العماني المرحوم “رفعت النجار”، أي هي عمة رفيقة الدرب زوجتي.
كانت “أم نديم” سيدة دمشقية في قمة الذوق وسحر الملبس والمجلس، ولم تكن قد تعرفت إلي بعد منذ زواجنا (مها وأنا). وأحسب أن موقفا سلبيا كانت تبيته نحوي لعدم معرفتها بي مسبقا، لكنها فوجئت بزرقة عيوني أشد من زرقة عيونها، وحمرة في الوجه أورثها والدي رحمه الله إلي عن طيب دعاء. وكذلك، كأنها استحسنت معشري بسرعة فائقة، وجلسنا بعد يوم أو يومين من زيارتها في بيت أخيها بجبل عمان نتبادل بعض حكايا كأننا أصدقاء قدامى.
كانت تلك السيدة قد أدركت حكم الملك فيصل في دمشق طفلة وعلمت أنني من الموالين للمَلك والمُلك (بضم الميم). وعلى حين تسلل عبر صمت سبق طلبها، قالت لي: أبو رفعت، متىً بدك تشرفنا عالشّام إنت وبنتنا والصبي الحلو حتى نقوم بالواجب!؟ وأجبتها دون تردد وبصورة جادة: إن شاء لله، لما نسترد الشام يا سيتي نيجيك ونزورك!
والمفاجأة كانت أن ردي لم يذهلها، وقد فهمت مباشرة معانيه ومراميه. وكان الرئيس حافظ الأسد يرسي قواعد قلعة دولته في دمشق. وأجابت على الفور: عاليوم يا إبني لو تنضم الشام لحكم جلالة الملك حسين، ولك اسم الله عَ “آمته” (المعنى: قامته)، شوفته عالتلفزيون أمس، شو هالملوكية شو هالكحلي اللي لابسه وبتأمز تأميز قدام الملكة اليزابيث. والله إنه أعرق منها. وأنهت أم نديم مداخلتها وبشيء يشوبه الحسرة: نيالكن يا إبني، بس يلي الله راضي عليه بيحكمه ملك هاشمي.
كانت جلالة الملكة اليزابيث في زيارة لعمّان يومها، وفعلا كان سيدنا الحسين جمال الله على الأرض يومها.
اليوم، هو الخامس من حزيران وهو عندي كان يوما خاصاً. كان الخامس من حزيران بدلالاته العامة هو يوم حزن، فهو أول أيام المرّ من هزيمة الأمة التي (عبطنا) نتائجها دون أن يكون لنا أي رأي في اتخاذ قرار خوضها، ذاك هو الخامس من حزيران سنة ١٩٦٧.
وأما الخامس من حزيران بدلالته النفسية والشخصية والمهنية، فقد كان أعظم يوم في حياتي، وأسمى ما تلقيته من تكريم مما ينسيني العتب عن ضياع أي تكريم بعده.
في الخامس من حزيران عام ١٩٨٩، تلقيت أبهى رسالة ملكية عمدتني كاتبا للملك
والحمد لله وبكل الفخر أباهي اليوم أن قلم كاتب الحسين لم يثلم بحرف جر طوال كل التحديات التي فرضت علي كإنسان، وظللت من الأتباع المتصوفة، أسأل الله في سري وعلانيتي أن أحيا أردنيا وأموت كذلك، وأن أحيا في ظلال العرش الهاشمي وأن يبقى مُظللا إلى أبعد مدى هذا التلم العربي الأردني، الذي هو آخر تلم في بلاد العرب يعرف المعاني الكامنة وراء هذه الحروف الثلاثة: (عرب).
ورغم أن الحديث في هذا اليوم يبدو شخصيا بأكثر مما تبيح به المهنة وفيه هواجس ذاتية لا يبررها عسر الحال العام، إلا أن النكوص إلى صور عذبة في الماضي تريح النفس، ومن أراد أن يعرف تأويل حروف هذا المقال سيدرك أسبابه، ومن يريد أن يأخذه بالمعنى الظاهر ولا يكمله لأنه محض نزق شخصي فلا ألومه في ذلك. فالمعاني لها أصحابها، ومن أراد أن يأخذ بالظاهر فيكون إما من “حزب المعاهدة” (وهو حزب عتيد قادر على القراءة التشويهية)، وإما من “حزب التمويل الأجنبي” (وهو حزب قادر على الاستئصال والتشويه بأكثر مما يتخيله الإنسان العادي).
وبمنتهى الصراحة أقول: لا أكتب اليوم لا لهؤلاء (حزب المعاهدة) ولا لأولئك (حزب التمويل الأجنبي)، بل أكتب للأردني الذي ما زال ممسكا بنظرية “أم نديم” الدمشقية ولكل أردني وأردنية يرى في العرش ضرورة وبقاؤه حتمية وواجب، برغم ما أُلحق به من ظلم أو أخطاء من أتباع ينتمون لعضوية الحزبين المذكورين. ولا مانع من أن يحكموا ويتحكموا في مقادير البلد، وأن يستولوا على قرارات وطن، تلك القرارات التي جعلت من صحيفة هي صحيفة الرأي الأردنية، التي طلعت منها إلى المقر السامي عام ١٩٩٣، كان عداد مطبعتها يختم كل يوم أربعاء ١٢٠ ألف نسخة وتعطي ضريبة الدخل مليوني دينار إلى أن وصلت إلى حال ترقب مضن للعاملين فيها (إذ يهجسون كل يوم: متى يقع الإغلاق النهائي!). واستللت مثل “الرأي”، من بين أمثلة كثيرة، لأنني أعلم سر النهوض وأسرار الانحدار فيها.
أعود لأقول إن التجربة التي مررت بها على المستوى الشخصي أخيرا، من حيث اللجوء للقضاء لإنصافي مما وجدته ظلما وتعديا ثم اضطراري بعدها للرجوع عن الشكوى، تشي بشيء من الحزن وبشيء من القلق.
وكما قال عبدالرحمن بن عوف للفاروق في أمر الولاية (أنزع نفسي منها)، فأنا أنزع نفسي من أي رغبة في أي شيء، حتى يقرأ من يُحسن التأويل نواياي الكامنة وراء حروفي، وهي أبعد ما تكون عن الشخصي، بل هي في صميم الهم الوطني، فأقول:
أولا، إن الوطن الأردني قد تغير كثيرا وكثيرا جدا، ولم يبق أردني في أي ركن بهذا الوطن لم يتحسن حاله في العشر سنوات الأولى من عهد الملك عبدالله حرسه الله، لكن الركود والربيع العربي واحتلال العراق وانتفاضة فلسطين الثانية وضعضعة سوريا وغيرها وغيرها قد انعكست بصورة سلبية على حياة الأردنيين، ولم تتمكن إطارات الدولة، كل الدولة، من أن (تُزنِّر الملك) بما يستحقه من زنار الأمان، وجعلت المواجهة والسبب في كل الذي يجري منصب على العرش، وليس على من هم يمسكون في مفاتيح الدولة.
ثانيا، إن الملك هو حاكم معقودة له البيعة، بكل ما يعنيه المفهوم من التزام ومسؤولية من المبايعين. طبعا جماعة الاختطاف والاعتقاد والمعاهدة، وهم كلهم يتحكمون في أعناقنا، سيقولون: هذا كلام رجعي ولا معنى له، أي “البيعة”! لأنهم يبحثون عن عقد اجتماعي، ومخرجات جديدة تناسب المرحلة. صحتين.. لكنّي من المبايعين، وقد قلت ذلك على مسامع الملك الراحل والأمير الحسن وكل الحكومة وكل رجال لجنة الميثاق الوطني، إحدى اللجان المحترمة برئيسها وبأعضائها.
ففي عام١٩٩١ لحظة إقرار الميثاق ألقيت كلمة رفضت فيها العقد الاجتماعي وأعلنت البيعة، ومن يومها لم يتغير (فرن) العقود الاجتماعية إلا بالمواقع من كاتب صار مسؤولا رفيعا، ومن وزير صار عينا، ومن شاب يحبو في السياسة أضحى رئيس وزراء سابق. ومن يومها لم أتغير في إدانتي للعقد الاجتماعي وفي التشبث بالبيعة ولست وحدي في هذه المعركة الضارية، التي يبدو الآن أن حزب المعاهدة وحزب التمويل الأجنبي قد حسمها لصالحه، وهم في النهاية أحرار في الكيفية التي يريدون أن يفهموا من خلالها العلاقة مع الملكية. وأنا من حزب “أم نديم” الدمشقية التي تتمنى إياب الهاشميين لكل أرجاء بلاد الشام (وهذا ليس كلام سياسة، هذا حديث متصوف في السياسة).
ثالثا، لقد جُرِّب الملك عبدالله في كل المحن التي تميد لها الجبال: كوارث حلت بالعالم منذ أن تولى بيعة الناس على مُلك هو أقدم حكم في تاريخ العالم الآن منذ أبو نمي حتى تواصل السلسلة الذهبية. دخل الانتفاضة الفلسطينية المُعسكرة ونجّانا من آثارها، واحتلال العراق الذي لم يكلف أحد من الماليين نفسه عناء الشرح أننا كنّا نتلقى قرابة المليارين من الدولارات سنويا دعما مباشرا وغير مباشر من شهيد الأمة صدام حسين للموازنة وخسرناها منذ ٢٠٠٣ – ٢٠٢٢، أي أن المبلغ يقارب مديونيتنا، ومع ذلك يستمر الحديث عن “الفساد”.. ثم دخل بنا الملك معركة مواجهة القاعدة وتبعات تدمير البرجين في أيلول الأمريكي ونجّانا الملك، وخضنا حرب مواجهة ضارية مع المتطرفين أهل التحريف الديني الدواعش وقدمنا أنبل الشهداء في المواجهة ونجّانا الملك. وكان الربيع غير العربي (الربيع الأوبامي) ونجانا الملك.. وعرض على الملك فتح ممر جوي لضرب مقر الحكم في دمشق مقابل المليارات ورفض الملك رغم ضيق الحال، رغم أن غيرنا من الأشقاء قد حلّ مشكلة دمشق الاقتصادية والقاهرة الاقتصادية سنة ١٩٩٠ عبر تحالف حفر الباطن ودق عنق العراق، أي أنه كان بإمكان الملك الاستناد على هذه السابقة وعمل نفس الشيء، لكن لأنه (الهاشمي) أبى وصمد ونجت سوريا. ثم بعد ذلك معركة صفقة (الفرن) ولا أقول القرن، لأن نارا شبت فجأة لم يطفئها إلا صبر الهاشمي.
فماذا نريد من اختبارات لنبل الهاشمي أكثر من كل هذا!!!
رابعا، هنا يبرز سؤال: لماذا إذا كل هذا الضجيج في الداخل الأردني؟! ولم كل هذا الغضب في الداخل الأردني؟ ولم دوما هناك همس في الطرقات وتصريح في وسائل الاتصال ما ظهر منها وما بطن تشكو وتنتقد وتتقول وتتهم الملك، مرة في ذمته وثانية في أخوته وثالثة في إدارته. ثمة سؤال محير عن هذا التفاوت في شرعية الإنجاز للملك وقبول الناس مباهاة وافتخارا بما أنجزه الملك.
في الخامس من حزيران حين كتبت مقالا انتقدت فيه سياسة سيدنا الملك المرحوم في أخطر قرار اتخذه وهو دخوله حرب حزيران لم يغضب رحمه الله ولم يستأصلني من الحياة العامة ولم يغلق بابه في وجهي، بل أغدق علي رسالته التاريخية والتي أشارك القراء إياها اليوم كي أقول للجيل الجديد إن المشكلة هي حين يكون غير الكفؤ واسطة بين الناس والحاكم يقع الخطأ ويتحول إلى خطيئة.
ليكن مهما تكن النتيجة، فانا ألتمس إعادة قراءة ما قاله الحسين في الخامس من حزيران عام ١٩٨٩ وقارنوه بحالنا اليوم وتبصروا في الأسباب التي تجعل من إنجاز الملك موضع سؤال. كل ذلك لسبب واحد: ليس من أحد في مكانه الصحيح.
اليوم، في ذكرى الخامس من حزيران، أدعو الله من كل قلبي أن يحرس الملك وأن يحرس المملكة من أتباع حزب المعاهدة وحزب التمويل الأجنبي والله أسال أن يهدينا إلى سواء السبيل.
تاليا الرسالة الملكية التي أرسلها المغفور له باذن الله سيدنا الحسين لكل أردني وأردنية بمناسبة الخامس من حزيران:
نشرت في : @عمون