أعمق تنهيدة على رحيلك يا نهاد

إلى جنة الخلد أيها الجليل، أيها النبيل، نهاد الموسى.

مثل قطعة حلوى طرابلسية أطرى قلبه من (حلاوة الجبن)، وعقله يحوي أضخم مكتبة في حب العرب والعربية: نهاد الموسى، سليل علم الأفغاني في جامعة دمشق، حين وافاها لاجئا من (العباسية) من أهراء يافا.

أساتذتنا الأحبة، يا من رحلتم بعد أن أعدتم صياغة أرواحنا. علمتمونا (عقل محمود إبراهيم) الذي حدوده القرآن واللغة والتاريخ، والذي ينقل لك اليقين بأن فكرة اليهود ممسوخة ورَدِيَّة وصغيرة على الفلسطينيين والعرب، حين يمخر بأرواحنا عباب بحر يقينه ويلقننا حتمية الدحر لليهود في تعليقه وشرحه للمرحلة الأقسى: “أدب الحروب الصليبية”. وعبد الكريم خليفة، سيد الحزن على الأندلس، يبكي ابن الزقاق ويطوف مسلما على إشبيلية والثغور ويحط بركابه على بلاط (المورسيكوس)، ويسأل بحسرة لماذا يوجد قسم في الجامعة العبرية لتدريس تجربة (المورسيكوس)؟ ويجيب بأن “اليهود يفكرون بإعادة تجربة تبديل الدين والهوية ]تجاه الفلسطينيين[ تحت سياط الاضطهاد والقتل”.

ذات ضحى مؤسف في حياتي مطلع الألفية الجديدة، وافيت نفسي بين يدي جراح القلب العالم المبهر إياس نهاد الموسى، ينقب في قلبي بغرفة عمليات في مستشفى الجامعة الأردنية، بتوصية وأمر من اِبن عمي ورفيق عمري الدكتور فايز داود “خلينا نحكي مع إياس هو الأفضل لعملية القسطرة!”. كان إياس يبحبش بالقلب الذي طوحت بقدرات صموده السجائر والمحن، ليستكشف مكمن الخلل وأي الشرايين أغلقت.

وبدل أن أكون مهموما بنتيجة بحبشة إياس في قلبي، رحت أضحك وكتمت ما أنا فيه من إحساس بالتناقض. فهذا الشاب الذي يسعى لرتق الفتق في قلبي هو اِبن ذلك العملاق الذي ملأ ذات القلب أشعارا وعلم نحو وتحبيبا لي بعلم الصرف. كنت أضحك بالدمع لأن القلب صار ملك إياس، هذا القلب الطافح بكل ملكوت اللغة؛ من بلوَرَه، من صنَعَه هو أستاذي نهاد الموسى رحمه الله، وتلك مفارقة مجنونة: أن الأب يتعامل مع القلب بوابة للحب والحياة، والاِبن يصلح تلك المضخة لما أفسده الدهر فيه.

يا لجور الذكريات.. كنّا أربعة أصدقاء عمر اِصطفانا ودلّلنا وقرّبنا (نهاد): صالح باشا الزيودي كان شاعرا ومسيسا، وعلي الفزاع أقدرنا في النحو والأقرب لعقل نهاد، وأحمد الحسبان الذي كان يقاتل على تخوم النجاح، ورابعهم كاتب هذه الجمل. ذات جمعة دعانا أحمد الحسبان لمنسف ملائكي في (حمامة) مسقط رأسه. كان نهاد الموسى وسمير قطامي وصالح الزيودي وعلي الفزاع وأنا في موكب عمّان. وحين رأى الدكتور نهاد الخروف يتوسط رأسه منتصبا المائدة، قال موجها كلامه لأحمد الحسبان “سامحك الله يا أحمد، كيف تعاند الطبيعة؟ أنت تساكن الحمام وتذبح الخراف!”. كان أبو إياد رحمه الله يتوفر على روح ماجدة هفهافة وهو الذي علمنا ألا نتحدث في القسم إلا بالعربية الفصحى. يقول “دربوا أنفسكم على الفصحى، وعلّموا الناس أنكم طلاب العربية مميزون (و غيرْ) عن البقية”.

كانت الجامعة واحة معرفة، كانت الجامعة الأم حدوتة الوطن وحكاياه الرائعة وتوفر لها علماء صنعوا جيلا أردنيا مميزا. كان يغضب رحمه الله إن دخل قاعة الدرس ووجد أن اللوح غير نظيف! ويسال “كيف لكم ان تبدأوا علما نظيفا ولم تكلفوا خاطركم إعداد الوسيلة!”. كان نهاد الموسى يسرِّب وعيه لنا بصورة ساحرة، يسألك عن معنى اِسمك في أول محاضرة (صرف)، كان هو من أقحم النحو وعلوم الصرف في عقولنا بأسلوبه التبسيطي التثقيفي والمعرفي النادر، يلقي القصائد الفاتنة على مسامعنا ويلسعك بسؤال نحوي مفاجئ.

كان نهاد الموسى جميل الطلة والأداء. ليس أحد كان استثنائيا في مظهره وبسمته مثل نهاد الموسى. كان وطنيا وعروبيا وأبا حنونا، يتعاطى معنا كأننا أبناؤه (إياد وأياس)، ويحرضنا على الارتقاء، لم يكن يخفي مساندته التي كانت حاسمة وانحيازه لأبناء الريف والطبقة الوسطى، كانت جملته الشهيرة “فناء الكون مفتوح للمريدين، ولمن يتقنون معنى الحداثة والتقدم بالمثابرة بالتميز”.

رحمك الله أستاذي الحنون الطيب العالم، وأشهد الله فيك أنك كنت بحرا من علوم وبحرا من طيب وراية للوطن والأمة، فمثلك يكون العلماء يا نهاد الموسى.

إلى صحبة تأخذك مع الأنبياء والأولياء والصديقين، بإذن الله، فعلمك بشير بموقعك في الجنة، فالعلماء ورثة الأنبياء، وقد كنت خير وريث وحافظ لعلم كبير ونافع.


 

نشرت في : @عمون  | @صحفي