الحسين: عيدنا أم عيد ميلاد؟(1-3)

هذا مقال طويل لأنني أكتب عن زعيم تاريخي، زعيم الظل العالي، وزعيمي دوما.وهو – مع كل هذا- عمّدني في حياته كاتباً أعبَّر عن وجدانه وروحه، وقد خصَّني بذلك عن كل كتاب الأمة. لذا، وجب علي أن أقول دوما في محرابه ما يسعد روحه في التحاقه بملكوت خالقه سبحانه.

كنت أُنصت لسمير الحياري، بعد سؤالي له عن رأيه في طريقة الكتابة عن الحسين رحمه الله في عيدنا معه وذكرى ميلاده المجيدة. وذلك ليس بصفته صاحب النشر في عمون، بل كنت أبحث عن إجابة بغرائزه عمّا يُمكن أن يكون ردة فعل القارئ الجديد. وحين أقول الجديد فإنني أستبعد حزب الشارع وشرّاح التمويل الأجنبي وكل حواريي مدرسة السوشال ميديا المجنونة. كنت أسأل عن الجيل الأردني الجديد البريء، الذي يسعى إلى الحقيقة المجردة والنزيهة. وغرائز سمير في المهنة أعرفها، وظللت متشبثا بها على مدار سنوات (التيه) في علاقتنا؛ فهو من أنبه من زاملتهم في فن تحرير الخبر. سألته(سمير الحياري) عن المقالة الممتدة. فأجازها، وقال: القارئ النابه يلاحق المضمون.

وعلى مدار يومين وأنا أتبادل الرأي مع المحرر الدائم لمقالاتي، الأخ ناصر قمش، الذي كان يلح علي أن أكتب شيئا جديداً عن الحسين.واستقر قراري بالإذعان لفكرة؛ وهي أن لو يكتب الأردنيون – كل واحد ممّن لديه قصته مع الحسين الخالد – وتقوم لجنة برئاسة شخصيةٍ بوزن الدكتور محمد عدنان البخيت والدكتور علي محافظة أطال الله في عمرهما، ومعهما سياسي نزيه، وددت أن أضيف المرحوم منير الدرّة لو كان حياً، فيغربلون ويتوثقون ما يكتب، وتقوم جهة ما بإصدارها على هيئة توثيق، مثل وثائق مؤتمر بحوث بلاد الشام.

ولقد خطرت الفكرة على بالي بعد أن ازدحم سوق الأفكار الأردني بمذكرات من شغلوا وظائف مهمة في الدولة. وقد أقلقني جملة من مزاعم وردت في بعض من هذه المذكرات، قد يكون جزءاً منها قد وقع، لكن اللغة غير المحتشمة في علاقة أصحاب المذكرات مع الحسين رحمه الله قد قرأتها في باب المداعبة الشعبية (…ماأكذَب من شايب ماتت أجياله)!وعلى أية حال، إن واتتني فرصة قريبا بحول الله، سأعمل على تقديم قراءة موضوعية لمذكرات كبار الموظفين في بلادنا.

في رواية تخص سيد الرجال (والذي صنَعَ وهيكَلَ أحسن الرجال)،أحاول أن أبدأ اليوم رسم صورة للحسين كما عشتها وكما رأيتها، وسأعتمد منهج (اللي شاهده مش معه، لا أقول ابن حرام ، بل أقول مطعون في شهادته).

وحبذا لو تتطور فكرة رسم الحسين بعيوننا واعتباره أحد أعيادنا الوطنية (عيد الحسين)؛فيُخصص يوم مولده للتسامح والحب واستذكار الطيب في هذا المجتمع الذي صنعه هو (أسرة واحدة) كما أراده، ونحكي عنه في حلقات الأسرة والمدرسة والجامعات والمعاهد وحتى مراكز البحث والمؤسسات الإعلامية، وحتى شطار السوشال ميديا (يمكن أن يعيرونا سكوتهم ليوم واحد مثلا). وهذه أفكار أولية حول ما أحلم به في عيدنا؛ عيد الحسين في مناسبة مئويتنا الأولى.

وأبدأ من جانبي هذا اليوم بتلاوة قصتي من حَدْب الحسين عليّ وما أرشدني إليه سمو الأمير الحسن بن طلال،أطال الله في عمره وأمده بكل صحة.

الصورة الأولى: عَلَمٌ وهِتاف أول الحكاية
لمحته أول مرة بعيني طفل بعمر تسع سنوات في سنام الجبل لمغاريب نابلس (زينة الدنيا وفلقة صابون طبُخت للتو في الجنة). كنت أحمل علم الأردن لمليكنا في الضفتين وقتذاك. و (وقتذاك) هذه ضرورية، خشية التأويل للمعنى السابع لمحتوى (ملك الضفتين)! وكنت أهتف لتحرير فلسطين: “فلسطين يا حسين”. كان هذا شعار البعثيين والشيوعيين في منطقة الجماعينيات (نسبة إلى قرية جماعين)، وأضافت عشيرة آل سلامة في بديا، التي أتشرف الانتساب إليها، هتافا من نوع آخر: “بدنا العفو يا حسين.. العفو، العفو يا حسين”.

قام الحسين في ذلك العام بزيارة لمدينة سلفيت (والتي كانت تعرف بموسكو الصغرى لكثافة الحضور الشيوعي فيها). ورتب محامي العشيرة، المرحوم الأستاذ وليد صلاح، أن يلقي أحد وجهاء العشيرة كلمة بين يدي جلالته يلتمس فيها العفو عن زعماء العشيرة (الدكتور رفعت عودة، واللواء الركن صادق الشرع، والعميد الركن صالح الشرع ، يرحمهم الله)، الذين كانوا في البدلة الحمراء بانتظار تنفيذ حكم الإعدام.

يا الله، ما أرحم الحسين وما أطهر قلبه.

كان مدير الناحية في ذلك الحين لتلك الديار عودة الله المحادين (أبو كامل)، وهو من تراخى في السماح لعبدالرحيم سلامة (أبو الحكم) نائب رئيس المجلس القروي في بلدة بديا ليلقي خطبة الالتماس والتي أعدها المحامي وليد صلاح.

كنت أقف على مكان بعيد حين حوَّمت طائرته فوق رؤوسنا وهبطت في جوارنا وحيّانا أثناء مروره مبتسما وفرحا وكان سعيدا جدا. وحين فرغ خطيب آل سلامة من كلمته تناولها منه ودسها في جيبه. وبعض خبراء العلم الملكي قالوا: فُرِجت باذن الله.

عدة أسابيع أعقبت ذاك اللقاء،الذي كنت أرى فيه ملامحه الوضاءة، كنا نحتفل بالعفو الملكي السامي بفرحة لم تشهد لها الدنيا مثيلا. لقد عاد قادة العشيرة سالمين غانمين، تلك أول صورة له داعبت روحي.. عفوه الأسطوري.

الصورة الثانية: افتتاح مستشفى الجامعة الأردنية (مستشفى عمّان الكبير)
كان ذلك عام ١٩٧٣، حين أضحت الأردن على مقربة من الشروع في بناء الدولة الحديثة وخطط التنمية. يومها، لم تترك السماء قطرة ماء واحدة لم تجد بها على أرضنا الطيبة، حين ترجّل الحسين من سيارته وسط استقبال دافئ في تلك الظروف القاسية نظمه وأشرف عليه أحد بُناة الوطن الأردني (عبدالسلام باشا المجالي) رئيس الجامعة الأردنية. وكنت من ضمن الطلبة الذين تم اختيارهم في شرف الاستقبال، وبعد أن قص شريط “مستشفى عمان الكبير”، الذي صار فيما بعد “مستشفى الجامعة الأردنية”، وكان بمقاييس تلك المرحلة لا يشبهه إنجاز، توجه الحسين ونحن أبناؤه من حوله بعد أن تفقد أقسام المستشفى الى مدخل كلية العلوم وأمسك بفأس حفر فيها بيده، وزرع شجرة ما زالت تصعد صوب السماء على مدخل تلك الكلية.

أصف كيف رأيته في تلك اللحظة أول مرة قريبا جدا: كان مبهجا، في وجهه نور، وفي يديه إرادة.. فرحا بكل إنجاز.

الصورة الثالثة: حوار ناري مع اليسار الجامعي
في عام،١٩٧٦ يبدو أن (القرار الأمني) قد استتب يقينا على إنهاء أي وجود سياسي معارض في داخل الجامعة الوحيدة في الأردن في ذلك الوقت (الجامعة الأردنية). وكان قرار الاستئصال الأمني ذاك قد ووجه بعقبتين اثنتين: الأولى،أن اليسار الطلابي كان مُحصّنا بحماية قانونية بوجود اتحاد طلبة الجامعة الأردنية. والثاني،أن رئيس الجامعة الأردنية، في ذلك الحين الدكتور عبد السلام المجالي، كان يرى أن التنوع والتعدد يخدم الدولة.

وعلى حين غرة، شطفت الأجهزة الأمنية بمداهمات واعتقالات، بدت أنها شاملة، كل تنظيمات اليسار في الجامعة، وألقت القبض على رؤوس التنظيمات (علي عامر، وكمال عزت عودة، ومن الحزب الشيوعي سمير عبدالله صالح ومعين قسيس) وآخرين وآخرين.

ولم تستثن الحملة الأمنية إلا تنظيم الإخوان المسلمين، الذين عبروا عن زهاء و فرحة بتفردهم في أروقة الجامعة ومدرجاتها، وأضحت رؤية (المجاهد) عبدالله عزام وهو يرتدي الفوتيك ويلقي خطبا نارية جزءا من المشهد اليومي في الجامعة.

وفي صبحٍ كانت دنيا الجامعة الأردنية فيه تنتظر في كل يوم حدث، صدر قرار بإلغاء اتحاد الطلبة في الجامعة الأردنية وأصبح المعتقلون من طلاب الجامعة من دون أي غطاء. لقد بلغ اللغط بسبب هول المفاجأة لإنهاء الحركة الطلابية بالجامعة الأردنية مدى غير مسبوق، وكنت واحدا من الطلبة الذين ذهبوا لمحاورة رئيس الجامعة في لقاء خُصص لبحث الأزمة على مدرج (وصفي التل) في كلية العلوم. وقد كان الرئيس واضحا وضوح الشمس:”إنني لا أستطيع حماية الطلبة بنشاط سياسي يرتبط بأحزاب خارج الجامعة، أما داخل الحرم فحماية الحركة الطلابية تقع على عاتقي ومن ضمن مسؤولياتي”.وفي نهاية لقاء مدرج وصفي التل ألمح الباشا الأب الحنون عبد السلام المجالي:”بالنسبة للطلبة المعتقلين الذين حُكموا مدداً طويلةً (علي عامر وسمير عبدالله صالح)، إن شاء الله أن نجد طريقة لمساعدتهم”. ولم يفهم أي من الطلبة آخر جملة للباشا بأننا سنكون على موعد مع الحسين.

وبعد أسبوع من ذلك اليوم، أبلغنا الدكتور عبدالرحمن عدس عميد شؤون الطلبة حين ذاك أن رئيس الجامعة يريد مقابلتكم في نادي الأساتذة مساء. وفي الساعة السادسة من ذلك اليوم، كنّا حوالي ٢٠ طالبا من اليسار واليمين حين ذهبنا للّقاء، وقال لنا الباشا عبد السلام:”غداً سيكون الحسين هنا معنا، وقولوا ما يحلو لكم”.

وعند الساعة ١١ في اليوم التالي كان الحسين ومعه المغفور لها الملكة علياء على مدرج (سمير الرفاعي)،والمدرج يغص بالأساتذة و الطلبة، وتحدث الحسين وبعدها فتح الباب للطلبة لقول كلمتهم.

كان الصخب على مقاعد المدرج قد بلغ ذروته حين طلب أحد رجال الأمن من كمال عزت أن لا يتحدث، وكان كمال عزت من مجموعة المعتقلين الذين واجهوا صعوبات جمة في التحقيق، لكنه وقف وقال كلاما، حين أتذكره بعد كل هذه السنين فإنني أدعو للحسين بالرحمة والمغفرة.

ليس من ملك أو وزير أو محافظ يستطيع أن يتحمل ذلك الغضب والجرأة الذين انفجرا بصورة مدوية في مدرج (سمير رفاعي). و حين وصل كمال عزت إلى قوله مخاطبا الملك “زرتُ رفاقي الأسبوع الماضي بالسجن وحملتني ملامح وجوههم رساله تقول: إن تحبسونا لن تحبسوا نار الكفاح بنا”، واحترقت القاعة بالتصفيق تأييدا لكمال الذي طلب من الملك العفو عن رفاقه.

أخد الحسين نفسا من سيجارته، وأجابه بخفة ظله المعهودة، و بدأ بالقول:”شو اسمك، يا أخي؟”فأجابه كمال: أنا كمال عزت عوده، وقلت كل الذي قلت وأعرف أنني سأنام الليلة في بيت خالتي (يقصد السجن)”. رد الملك: “ما عاش يلّي يسجنك يا أخ كمال. يبدو أنك خدعت بهذه الشيبات”. وأشار بيده إلى شيبه، وأكمل: “بس بحب أقلك: محسوبكم بعده شب! واسمحلي أن استخدم نفس الحدة الذي استخدمتها أنت”. وبعدها،أجابه الملك عن كل ما يجول في خاطره. في اليوم التالي للزيارة الملكية كان علي عامر وسمير عبدالله صالح قد عادا إلى الجامعة الأردنية بعفو ملكي سام، لم أزل وسأظل أتذكر ذلك الخلق النبوي في سماحته وطيب خاطره.

في القادم من كتابة، سأقف عند مجموعة حوادث ومحطات مع الحسين: تأميم الصحف الأردنية (قبل فك الارتباط) عام 1988 وزيارة جلالته للصحف الثلاث، ولقاء بسمان في قلب هبة نيسان عام 1989، وإقرار الميثاق الوطني عام 1991.

 

 

 

 


 

نشرت في : @عمون  | @صحفي | @الحياة نيوز