بدأتُ في عيد ميلاد جلالة الراحل الملك الحسين كتابة ونشر سلسلة من المقالات بعنوان “الحسين عيدنا أم عيد ميلاد؟”. وقد اخترت عنوانا مختلفا لهذه المقالة الثالثة والأخيرة في هذه السلسلة من وحي إحدى التجارب الفريدة التي عايشتها مع الراحل الكبير.
والحقّ أن عنوان المقالة ومفتاحها “الحسين أغلى ما نملك” هو عنوان لمقالة منشورة لي في جريدة “الرأي” قبل 32 سنة.
والحق أيضاً أنه لم يكن من صنعي، بل هو لسيدي صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال، حفظ الله لنا قلبه وذريته. وأحببت أن أستهل هذا المقال بقصة العنوان.
كان الحسين رحمه الله بعد ضغط جملة مناسبات في حزيران 1991 قد تعرض لعدم انتظام في دقات القلب، وأُدخل لمدينته الطبية. وذهبت مع الزميلة كارولين فرج والزميل يوسف العلان، مستندين إلى طبيبه يوسف القسوس وحبِّه لنا إلى “المدينة”، على أمل الظفر بصورة لإرفاقها بخبرعن الحسين. ولحسن طالعنا، لحظة الوصول إلى مركز القلب كان سمو الأمير الحسن يغادر بعد أن اِطمأن على صحة جلالته ومعه يوسف باشا القسوس.
بنبله الهاشمي التليد، نادانا صاحب السمو الحسن بن طلال: بدكو خبر عن سيدنا؟ سيدنا بخير والحمد لله. وتلفت إلى يوسف باشا، وقال له: خبِّر الصحافة. وغادرنا بخبر حميم وكلّنا فرح ..كنت أخبر الزميل الأستاذ محمود الكايد بالقصة الصحفية، وإذا بهاتفه يصدح.. أجاب، وقال لي: الهاتف لك. كان ناصر جودة، وعلى ما أذكر أنه كان السكرتير الخاص لسيدي حسن، سلّم وحيّا، وقال لي: سيدي حسن بدو يكلمك.
وهل مثل هدير صوته لذة! وعادة الحسن أنه يدخل في موضوعه مباشرة، قال حفظه الله: أحمد.. سيدنا رفع شعار الإنسان أغلى ما نملك، أولم يئن الأوان أن نرد له بعض امتنان؟ ونقول: الحسين أغلى ما نملك، وأن نترجم هذا الشعار إلى فعل بحسن أدائنا والإخلاص لوطننا، وإنجاز المطلوب منا، علَّنا أن نخفف عنه بعض همومه ومسؤولياته. وأكمل بودّ: ها أنا ذا أعطيتك عنوان مقال ومادته، بس لا تفصح عن من كتب هذا العنوان!
وكان مقالي في اليوم التالي بعنوان “الحسين أغلى ما نملك”. وها أنا اليوم أبوح بكشف صاحب الشرف بهذا العنوان المليء بالمروءة وبالحب ..ولأجل ما نحمله لروحه من محبة ووفاء، سأروي هنا عدة قصص تبرهن أنه الأغلى بإنسانيته، وبكريم خلقه وبحبه لنا وبعروبته الطاعنة حتى النبي (صلوات الله عليه وسلامه) ..
علاج إبراهيم شحدة
كان المحامي، ابن مخيم البقعة، الأستاذ إبراهيم شحدة رحمه الله أول من أدخل سيارة بنمرة حمراء “كنائب” على مخيم البقعة، أقول ربما.. ومرِضَ بالخبيث فجأة، وعندما زار سيدي حسن المخيم متفقداً برنامجا تعليميا لوكالة الأونروا، وقف إبراهيم في صف المستقبلين لسموّه.
كان متداعياً مهلوكاً بعد جلسة علاج كيماوي، لكنه أصرّ على تقديم واجب الاستقبال ولمح سمو الحسن ضعفَه. بعدها، فقد الوعي وغادر قبل الوداع. استفسر سموه عنه وأُخبر بحاله.
جرت العادة أن نتسمر على شاشة التلفزيون عند نشرة الثامنة، كل العاملين في الإعلام بالديوان الملكي الهاشمي العامر، للتعامل السريع مع ملاحظات عادة ما ترد عقب أو وسط النشرة من سيدنا أو من سيدي حسن. ولم نكن نجيب على أي هاتف سوى هاتف المقر السامي.
بعد الخبر الثاني في النشرة كان سيدي حسن يهاتف، ومما قاله: أنا بحكي من حضرة سيدنا، بالنسبة للأخ إبراهيم شحدة، سيدنا أمر بعلاجه في أمريكا فورا دون إبطاء”.
وسمعت صوت سيدنا يسأل”إنت مع مين بتحكي؟” أخبره سيدي حسن، فأخذ الهاتف وقال رحمه الله “أحمد، في طبيب بأمريكا بيزرع كبد”. وذكر لي اسمه، وأضاف: كلموا يوسف (هكذا كان يقول عن يوسف القسوس، وكان لا يوسف سواه) وأخبِره يتخذ ما يلزم وغداً يسافر الأخ إبراهيم شافاه الله.
كان في صوته إلحاح أبويّ وعطف وتعاطف. طلبت من مقسم المقر أن يصلني بسرعة بالباشا يوسف القسوس، ومقسم المقر كان شعلة نشاط وسرعة في التنفيذ. كان إبراهيم العثامنة هو من يستلم الاتصالات تلك اللحظة. ومضت خمس دقائق، رجعت أسأل إبراهيم “وين الباشا يا إبراهيم؟” أجاب “هيني بحاول سيدي، بس شوي”. وقد أخفى عني أن سيدنا لم ينتظر، وكان بيحكي مع الباشا القسوس.
فُرِجت بعد دقائق، وجدت يوسف القسوس يضحك، قائلا: أهلين أحمد.. وأكمل: حاضر.. إبراهيم شحدة تؤمر، سيدنا كلمني أربع مرات الآن، وأمرني أتواصل معك. غدا بإذن الله سيسافر إبراهيم شحدة لأمريكا وباشرنا بالترتيبات وسأخبرك فورا وقل له (أي إبراهيم) أن يجهز للسفر.
حين أخبرت إبراهيم، رحمه الله، بكى وطلب مني التماسا ليشكر سيدنا وسيدي حسن. رجعت لسيدي حسن، أخبرَ سيدنا، وقال: الآن بدو يكلمه سيدنا. وقد حصل، وغادر في اليوم التالي. لكن المرض لم يمهله كثيرا رحمه الله.. لقد أجاد الحسن حين قال “الحسين أغلى ما نملك”.
تلك مشاهدة عايشتها عندما عملت في بلاط صاحب الجلالة، وقد تشرفت أيضا بأن عايشت مشاهدات أخرى قبل وبعد ذلك من زاوية عملي الصحفي في بلاط صاحبة الجلالة مهنة الصحافة، سأروي بعضها هنا.
“أجل أيها الزميل .. فالكذب لا يبيض وجها!”
لا أتذكر في حياتي أن رددت على أحد كتب نافيا أو منكرا أو منتقدا أو مكذبا ما كتبت. وذلك رأي عندي تمسكت به على مدار كل حياتي المهنية. وحين كان يضيق الأمر ببعض أصدقائي ويلحون عليّ حين تشتد موجات الهجوم المعروفة أسبابها في كل حقبة، كنت أقاوم إلحاحهم بالقول الدائم عندي (هو شايفني أو شايف ما أكتبه هكذا، لماذا اعترض عليه!). وكنت دوما أعرف أن القارئ يدرك بعميق تجربته من هو الكاذب والمارق والأفاك. وقد التزمت دوما بهذا الطقس الذي عنونه معالي الكبير صلاح أبو زيد بقوله (أنا لا أحب ولا أكره في العمل، لكنّي أتقن فنّ الاحتقار).
ولقد خرجت عن مألوف هذه القاعدة في حياتي، ربما مرتين. وكان الرد ضرورة وطنية وليست لكرامة شخصية. الأولى، مطلع التسعينيات، وكان ردا على الأستاذ (مكرم محمد أحمد) أحد أركان مهنة الصحافة المصرية في حقبة (حسني مبارك). إذ كتب مقالا قاسيا وغير إنساني بحق سيدنا الحسين رحمه الله عقب إصدار الحكومة الأردنية وثيقة (الكتاب الأبيض)، المتضمن تفنيد جملة المزاعم المضادة من موقفنا في حرب الخليج الثانية.
ورغم أن (الكتاب الأبيض) قد أصدرته الحكومة، إلا أن الهجوم غير المهني الذي تضمنه مقال الأستاذ مكرم قد راح باتجاه المرحوم سيدنا الحسين وعنونه (الكذب لا يبيض وجها)!
يحلو لي أن أتذكر بأن ذلك كان يوم جمعة، وكنت أكتب مقالتي الأسبوعية في زاوية (٧ أيام) في (الرأي) يوم السبت وعادة ما أتواجد في الرأي العزيزة يوم الجمعة، حين تلقيت هاتفا من معالي الأستاذ عدنان أبو عودة، وكان حينها رئيسا للديوان الملكي الهاشمي، أطال الله في عمره. وأخبرني بالمقال، ولم أكن قد قرأته بعد، وأخبرني بغضب سيدنا العارم على المزاعم التي حشدها الكاتب المصري. وأرسل لي معاليه المقال، وبعض المعلومات الدقيقة التي تناقض أقواله.
كان ذلك أول مرة أرد فيها مهنيا على أحد. قرأت المقال، والحق أنه تضمن أذى لغويا يمكن القول فيه أنه صورة من صور التمادي على الأردن، وفيه وصلة ردح تخلو من المهنية والمعلومات. كتبت ردي على الأستاذ (مكرم) وطلبته على الهاتف، مستعينا بسفارة المملكة في القاهرة للحصول على رقمه. رد عليّ، عرفت بنفسي وأنني كاتب ومدير تحرير في صحيفة الرأي الأردنية، وأحب أن أرد على مقالتكم الخاصة بحرب الخليج وموقفنا منها.
فرد بثقة: (أوي أوي يا فندم .. حقك). وأكملت له: وعملا بحرية النشر، أود أن تنشرها في مطبوعتك. وأعتقد أنه كان هو في حينه في مجلة أكتوبر وينشر له في الأهرام. فقال: سأرد عليك بعد ساعة. وعاد لي بعد ساعة، عارضا ما يلي: أنت تنشر مقالتي في صحيفة الرأي بتاعتكم، وأنا بنشر مقالتك عندي. قلت له: يا أستاذ، مقالتي أنا أرد بها على مقالتكم رداً مهنيا يخلو من الشتائم والسباب. أما مقالتكم، فهي عبارة عن (مخمر موز). لم يستوعب المعنى والتشبيه، على ما أظن. وقال: هذا عرضي، أدرسوه واِرجع لي.
أخبرت المرحوم الأستاذ رئيس التحرير رحمه الله محمود الكايد بفحوى كل الذي جرى، وسألته الرأي. قال لي: لا تسأل أحد. نحن سننشر له مقالته، وهومن طرفه ينشر مقالتك. وعاودت واتصلت به، وطلب إرسال المقالة. وبعد أن قرأها تراجع عن وعده، وكان أن اضطررنا أن ننشرها في (الرأي) فقط بعنوان “أجل أيها الزميل.. فالكذب لا يبيض وجها!”.
وفي أول لقاء تشرفت بعدها بالمثول بين يدي سيدنا الحسين قال لي: أنا سعيد بأن الجيل الجديد من كتابنا يتحصلون على هيك خلق وهيك مهنية.
أما الموقف الثاني لممارسة الرد، فهو رد على المرحوم الأستاذ (محمد حسنين هيكل) في مطلع الألفية الثانية. كان هيكل رحمه الله قد تعاقد مع محطة الجزيرة في مهنة أضافها إلى مهنه السابقة (مهنة الراوي). وهي مهنة قديمة قدم التاريخ العربي، وتطرق ذات حلقة إلى الهاشميين كسلالة وملك ودور. وعلى الرغم من مرور كل هذه السنوات على ذلك القول إلا أن استرجاعه يحزنني، لأنني رأيت رؤية العين والسمع من جلالة المرحوم سيدنا الحسين وسمو الأمير الحسن حفظه الله حجم تقديرهم لذلك الكاتب المميز والاستثنائي.
على العموم، فقد اشتط (هيكل) وظلم وقسا. وكانت كل حلقات الدولة في حينه تبحث عن رد يناسب حجم الافتراء الـ (هيكلي). و باشرت إعداد رد جامع وشامل، وتفرغت لذلك أسبوعا كاملا، قلّبت كل شيء، وكنت أهيئ النفس لنشره في صحيفة (الهلال الأسبوعية) حيث كنت أعمل يومها. وبعد أن راجعه كاملا، تحريرا وموضوعا، الزميل الأستاذ ناصر قمش رئيس تحرير الهلال فأجازه، اتصل بي الزميل الأستاذ عبد الوهاب زغيلات، وكان يومها هو رئيس تحرير الرأي ومرّ بزيارة.
وعلى طريقته في تناول موضوعه بروية قال: أنهيت مقالتك تبعة هيكل؟! أجبته: نعم، وأتمنى عليك أن تقرأها قبل أن أنشرها (لأن عبد الوهاب لديه عين صقر في رقابة الحروف).
ناولته المقالة، كانت طويلة جدا أانها ليست مقالة بل كانت دراسة. وأخذ عبدالوهاب وقته، وكنا ثلاثة (عبد الوهاب وناصر وأنا). ولما انتهى منها، قال مبتسما بعد أن لفها بيده: يلا خاطركم.. بدنا نلحق نصفها وننشرها في (الرأي).
وقال بطريقته: إحنا حابين ننشرها بالرأي. ولم أقل له شيئا. وكانت في اليوم التالي تتصدر الصفحة الأولى في الرأي شارة لها بعنوان (أحمد سلامة يكتب عن هيكل: حدّث فكذب.. ووعد فأخلف.. واؤتمن ..). وظل ذلك المقال حديث المدينة مدة طويلة من زمن، وقد كتبته وفاء لروح الحسين وعرفانا له لما صنعه فينا لأن الوفاء لا يكون للأحياء وحسب، بل يستمر على المدى. رحم الله الحسين .
ثمة ما أختم به اليوم عنه وأقول: كان سلالة في رجل وكان وطنا في روح وإرادة في رسالة. وأزعم أن القرن الماضي، الذي غادره وغادرنا خلاله قبل أن تغدر الدنيا بأمة العرب على نحو دراماتيكي، لم يشهد حاكما باراه أو جاراه أو حتى قلده.
يرحمك الله يا مولاي في عيد مولدك الذي سيظل جميلا أنّى ظلت لنا حياة.
نشرت في : @عمون